قد لا يفاجأ بعضهم عندما يسمع أنّ هناك معرضاً جديداً لجميل ملاعب (1948). فهذا الطقس أصبح شبه بديهي كل عام كمواسم الحصاد. قد يكون جميل ملاعب أحد أكثر التشكيليين اللبنانيين غزارة في الإنتاج والعرض. واليوم، يعرض حصاد عامه في «غاليري جانين ربيز» (الروشة) التي يتعاون معها منذ عام 1994. تعود جذور التعاون هذا إلى عام 1967 أيام الراحلة جانين ربيز، طبعاً إلى جانب عرضه الدائم في متحفه الخاص في بلدته الجبلية بيصور، الذي افتتح قبل عامين.
في حصاد هذا العام، قرر ملاعب تأريخ يومياته على شكل لوحات. الفنان البيصوري الذي ربّى جيلاً من طلاب الفنون التشكيلية في كلية الفنون (الجامعة اللبنانية)، لا تكفّ يداه عن الرسم. يرسم كل شيء، يرسم كل ما يرى، يرسم كل الوقت، ويرسم كل ما يريد. يرسم يرسم يرسم... هذا جوهر ما يفعله في الحياة.
ماذا يرسم ملاعب؟ ولمَ؟ وكيف؟ قد تكون الأجوبة عن هذه الأسئلة هي الأسهل والأوضح على الإطلاق. فلا مواربة إطلاقاً في ما يقدمه جميل ملاعب، ولا تورية ولا تمويه. يرسم يومياته كما يراها.

يؤرخ لحظته بنفسٍ فنّي نوستالجي. هنا يجرد البنيان الواقعي من نسبه التشريحية الدقيقة، يتصرف بها لتصبح كينونات مستقلة عن الواقع وقريبة منه في آن واحد، لكنها للدقة أقرب إلى خيالٍ نوستالجي. يلحقها بما يشبه عالم الزجاجيات أو الموزاييك، ولكن زيتاً على قماش، أو أكريليكاً على كانفاس. وهذه الأخيرة غالباً ما يشدها بنفسه على الشاسي، أي القالب الخشبي الذي يحمل قماشة اللوحة. الفنان القدير الذي كان يعرض لنا أعماله أيضاً نقشاً على خشب، أو الأهم حفراً مدمجاً على ورق، اختار ليومياته في هذا المعرض اللوحة دون سواها، بعكس معرضه العام الفائت حين قدّم مجموعة من أعمال الحفر بمختلف التقنيات (من صلب اختصاصه التشكيلي): من الحفر الحجري مروراً بالحفر الخشبي والطباعة الحريرية، وصولاً إلى الحفر بالأسيد على الزنك وغيرها. جاورتها حينها بعض الأعمال بالغواش والباستيل الطبشوري، تحت ثيمة «نيويورك نيويورك». والمفارقة هنا أنّ تلك الأعمال أيضاً كان يعتبرها الفنان تأريخاً أو نوعاً من يوميات عايشها في تلك الحقبة من دراسته في المدينة الأميركية بين أعوام 1984 و1987، أو لاحقاً خلال زيارته لها عام 2015.

ملوّن بارع مرّ بمختلف المدارس من التجريدية
إلى التعبيرية
وما بينهما

هذا الملون البارع الذي مرّ بمختلف الاتجاهات والمدارس من التجريدية إلى التعبيرية وما بينهما، كانت لوحاته إذاً بغالبيتها بيوغرافيا ذاتية. يوميات يتشاركها باللون والريشة بدلاً من الكلمة. مع العلم أن لجميل ملاعب سبعة إصدارات أوّلها عام 1977، وللمفارقة أيضاً، إن عنوان الإصدار الأول هو «يوميات الحرب الأهلية»!
فماذا يقول اليوم عن هذا المعرض بالذات؟ وعن «يومياته»؟: «لوحتي في يومياتي تختصر كل تجاربي ومشاهداتي. هي تكتب مذكرات أشواقي في الصباح والمساء في كل الأيام والفصول، في يوم مشمس ويوم ماطر، في رحلة قصيرة من الجبل إلى بيروت عبر طريق البحر. هي السماء تدعوني لأقطف مشاهد طيورها، وهو البحر يؤهل بي كي أغوص في لجته، هم الناس يسلّمون عليّ، وهي مشهد مزارع يزرع أو بائع خضار يعرض تفاحه وخضاره الملونة في صناديق كأنها قطع فنية لعمل تشكيلي معاصر. هي النساء يعملن في البيت والدار مع أطفالهن. هي الناس القريبون من الطبيعة. هي دكاكين النجارين والحدادين، وصانعو الفخار، وناحتو الأحجار والصخور، وصيادو الأسماك، والسباحون. وأنا أعيش بين هذه المتاحف الواقعية في حياة تنمو كل يوم وتدور الساعات لتسجل أجمل الصور والأفلام عن الحياة في لبنان الذي يختزل في جماله وروح أهله كل الأكوان. هو الوطن العزيز الذي يدعوني إلى أن أعيش فيه أجمل الأيام في أصعب الظروف وفي كل المناسبات، في فرحه وأزماته».
ذلك طبعاً بحسب البيان الفني الصادر في 1 تموز (يوليو) 2017 تمهيداً للمعرض الحالي.
وفي شرح الأعمال، يبدأ ملاعب بيانه: «يطلب مني في كل معرض أقيمه أن أفسِّر مضمون كل لوحة فيه، أن أعبِّر عن اللون والخط والمساحات الفارغة، أن أغوص في البحث عن أسرار تأليف عمل جمالي ولغته التشكيلية. هذا العمل الذي لطالما اكتنز خطوطه من كل ما حفظته من تجارب و قراءات ومحاضرات عن الشكل والمضمون والواقع والحقيقة والزمن والقرية وارتباط ممارساتها بالحياة اليومية، إضافة إلى تأثير البيئة والمدينة والضيعة والمقهى والسفر والدراسات المتنوعة والتراث العلمي ومدارس أوروبا وأميركا وموسكو والقاهرة والهند والمكسيك. لا أعرف كيف أعبِّر عن كل هذه التأثيرات، بالإضافة إلى تأثيرات خاصة أتتني عبر الأجيال والأجداد ومن حياة الأهل في ضيعة اسمها بيصور، هي جزء من تراث عريق ومتنوع وهي مصغر لحياة كونية تختصر كل شيء». فهل تختصر لوحات ملاعب البيوغرافيّة الذاتية كل شيء كما تختصر كل الألوان؟ هل تضم إلى القلب مخزون الضوء من بيصور الجبلية إلى بيروت عبر المروحة اللامتناهية من مزيجها اللوني المتفائل؟ ماذا تقول لوحة ملاعب؟ الجواب الأصدق خطّه جميل ملاعب بيده في خاتمة البيان الفنيّ للمعرض: «تخترق اللوحة المشهد العابر وتحاول أن تسجل الأمل والفرح في وطن يحضنني وأحضنه، والسلام على اللون والشكل، وعلى زمن أعبر منه إلى لوحة أرجو أن تكون مرآتي ومحطة لحياتي العابرة».

«يومياتي» لجميل ملاعب: حتى 27 أيلول (سبتمبر) ـــ «غاليري جانين ربيز» (الروشة) ـــ للاستعلام: 01/868290