على وقع أوراق النعوة، والرقص على آلام أهالي العسكريين المخطوفين، التي خطّتها المواقع الإلكترونية اللبنانية، قبل إعلان المدير العام للأمن العام عباس إبراهيم تحديد مكان وجود رفات هؤلاء الجنود، خطف هذا الخبر الأليم حصاد «التحرير الثاني»، كما أطلق عليه بعد تطهير الحدود اللبنانية - السورية من المنظمات الإرهابية.
مصير العسكريين الثمانية الذين وجدوا في «وادي الدب» في جرود عرسال، دلّ على مكانهم عناصر من «داعش»، ضمن اتفاق بين التنظيم الإرهابي و«حزب الله»، يقضي باسترجاع جثامين لشهداء للحزب، والكشف عن مصير العسكريين، مقابل ترحيل مسلحي التنظيم الإرهابي الى «دير الزور» السورية. هذا الاتفاق المعلن والواضح، لعبت على وتره وسائل إعلام 14 آذار، وتحديداً قناتا «المستقبل»، وmtv. صوّرت قناة الحريري هذا الاتفاق كأنه مبرم تحت الطاولة وتمّ برعاية النظام السوري. وأيضاً ركزت القناة على أن كشف هذا المصير ما كان سيحصل لو لم يحسم الجيش المعركة في جرود رأس بعلبك والقاع «من دون أي شريك له»، كما جاء في مقدمة نشرة أخبارها المسائية أول من أمس. أما قناة «المرّ»، فاستعادت السمفونية عينها، في تكرار مصطلحات «السيادة» و«هيبة الدولة» ودور «حزب الله». هكذا، ظهر سامي نادر، مستشارها السياسي أول من أمس في نشرة الأخبار، ليعلن أنّ لبنان بات «خاضعاً للنفوذ الإيراني»، وأن الحزب هو الذي «وضع لبنان في قلب صراع إقليمي مع محاور أخرى»، انطلاقاً مما يجري في سوريا. وجزم أنّ «حزب الله» بات اليوم «صاحب القرار السيادي»، في ظل غياب لأي اعتبار لمصلحة لبنان و«معنويات الجيش»، و«سيادة الدولة». هذا الأمر كرّرته مذيعة القناة جيسكا عازار التي لم يسعفها الوقت لتلقى جواباً من نادر حول «ترحيل داعش»، وعادت ونشرت على حسابها على تويتر السؤال عينه، مع الإجابة عليه بأن هؤلاء العناصر يحتاج اليهم النظام السوري، ويشعرون «بالأمان معه»!
إذاً، كان تركيز mtv بادياً على هذه النقطة، وتجاهل الواقع وبنود الاتفاق المعلن، الذي لولاه لما عرفنا مكان العسكريين. سؤال كررته المحطة في مقدمة نشرة أخبارها: «كيف سيسمح للإرهابيين الدواعش بالخروج من الجرود بعد قتلهم جنوداً ينتمون الى المؤسسة العسكرية؟».

mtv استأنفت سمفونيتها
عن «السيادة»
و«هيبة الدولة»
ودور «حزب الله»

إذاً فجأة وبسحر ساحر، دقت أبواب المحاسبة عند قنوات امتهنت حماية ورعاية بل شرعنة تواجد الإرهابيين على الأراضي اللبنانية، وتحديداً في منطقة عرسال. بات المطلب اليوم، محاسبة الدواعش الذين قاموا بتصفية الجنود اللبنانيين، وعدم السماح لهم بالخروج الى سوريا. لعبة مكشوفة على الذاكرة القصيرة للبنانيين، لما امتهنه بعض الإعلام اللبناني ومعه الفريق السياسي المصاحب، من تورية لخطورة «داعش» على الحدود. وكلنا يذكر كلام رئيس الهيئة التنفيذية للقوات اللبنانية، سمير جعجع، عندما صرّح في آب (أغسطس) من عام 2014، أنّ «داعش كذبة كبيرة... ولا تمثل خطراً على المنطقة»، وبعده المسؤول الإعلامي للقوات شارل جبور في تغريدته الشهيرة: «هل داعش ضد حزب الله؟ نعم.. إذاً أنا مع داعش». ولا ننسى كلام وليد جنبلاط عن جبهة «النصرة»، الذي أسقط عنها صفة الإرهاب واعتبرها «مجموعة مواطنين سوريين يدافعون عن أرضهم».
أرضية خصبة فرشتها الأبواق الإعلامية اللبنانية، وفتحت الهواء للمحرضين على الجيش أمثال محمد كبارة، معين المرعبي، خالد الضاهر، وباقي المتورطين بتسليم العسكريين أمثال «أبو طاقية»، و«أبو عجينة» الذي تواجد أخيراً مع سعد الحريري في مؤتمره الصحافي الأخير في عرسال. أضف إلى ذلك التضليل الذي مارسته هذه القنوات وعلى رأسها «المستقبل»، إبان غزو «الدواعش» لعرسال، وتصوير الأخيرة على أنها «محاصرة»، و«أسيرة» لدى «حزب الله»، ضمن بروباغندا واضحة دأبت على إبعاد الصورة الواقعية لعرسال، عبر تجاهل عمداً أعداد المسلحين الإرهابيين الهائلة الذين وجدوا في البلدة البقاعية ملاذاً لهم بعد معركة «يبرود»، وفي مسار تحريضي يلعب على الوتر المذهبي، ويحمي بطريقة مباشرة هؤلاء المجرمين.
يتباكى هذا الإعلام اليوم على الجنود العسكريين، ويظهر حسّ التضامن مع أهاليهم، متغافلاً عن أنّه مسؤول أيضاً مع الطبقة السياسية الحاكمة منذ ثلاث سنوات عما وصلنا اليه اليوم. هذه المنابر الى جانبها قنوات أخرى، لم تكن على قدر المسؤولية المهنية والوطنية، في مواكبة معركة «رأس بعلبك والقاع»، ومصير العسكريين أيضاً. جلّ هذه الوسائل الإعلامية لم تبادر حتى الى تعديل برمجتها، بما يتناسب مع ما يشهده لبنان من مآسٍ وحداد. وهذا ما دفع وزير الإعلام ملحم رياشي الى التغريد أول من أمس، متمنياً على وسائل الإعلام «الانتقال الى بث ما يتلاءم مع الحدث ضناً بالدماء الزكية، وتحية للجيش».
غاب الحس المسؤول عند القنوات اللبنانية، التي تعاملت مع الحدث كأنه يحصل في بلد آخر، مستكثرة الوقوف عند لحظة وطنية عالية، مفضّلة استكمال برامجها كالمعتاد، في تراجع للدور المنوط بالقنوات الإعلامية بإثارة الحسّ الوطني، ومواكبة مأساة أهالي العسكريين.
تاريخ 26 آب (أغسطس) أسدل الستار على ملف إنساني طال انتظاره ثلاث سنوات، وأغرق الأهالي مرة أخرى في حزن وأسى عميقين. تسابقت الكاميرات أول من أمس على خيمتهم في «رياض الصلح» لالتقاط دموعهم وفجيعتهم، بعد تبليغ إبراهيم لهم بالخبر القاسي، على الرغم من طلبهم من وسائل الإعلام احترام هذه اللحظة وعدم استراق آلامهم. كان حسين يوسف الناطق باسم الأهالي النجم الأوحد الذي شغل السوشال ميديا. حمل إبان هذه السنوات معاناة الأهالي متنقلاً بين القنوات اللبنانية، لكن وراء الخيمة أيضاً عوائل انتظرت وفُجعت. الفارق أنها غائبة عن عدسات الكاميرا، لكنها، تتقاسم الفاجعة عينها مع حسين يوسف.




استعراض مهين للكرامة الإنسانية

فيما كانت المواقع الإلكترونية تضرب بعرض الحائط المعايير المهنية والأخلاقية، وتستبق الخبر الرسمي عن مصير الجنود العسكريين، وتنعاهم وتفبرك أخباراً إضافية عن نقلهم وبدء إجراء فحوصات الحمض النووي، استمر العدد الهائل لعدسات الكاميرات التلفزيونية في محاولة استراق مشاهد خاصة للأهالي في خيمتهم في «رياض الصلح»، بعد سماعهم الخبر شبه المؤكد من اللواء عباس إبراهيم. وما زاد الطين بلة إقدام صفحات فايسبوكية على نشر صور من مكان تواجد رفات العسكريين في «وادي الدب» (جرود عرسال).
هكذاً، من دون خجل ولا مراعاة لأي حسّ إنساني أو لشعور عوائل هؤلاء، نشرت هذه الصفحات عدداً من الصور تظهر أعمال النبش واستخراج الرفات في استعراض مهين للكرامة الإنسانية، واستخدام الصور للتسويق والترويج الوضيع لهذه الصفحات. وفي كل هذه المشهدية المواكبة الإعلامية، من عملية إعلان خبر الجنود وصولاً الى نقل رفاتهم الى «المستشفى العسكري»، غابت الأخلاقيات وحضر السبق الذي تراقص على آلام الناس، وطعن عميقاً بمشاعرهم وبكرامة الجنود المستشهدين.