دمشق | مرةً، كانت النجمة المخضرمة منى واصف (1942) في زيارة إلى كندا حين قال لها طبيب سوري مقيم هناك: «عندما غادرت الشام، بقيت أتذكر ثلاثة أشياء على الدوام: الجامع الأموي، وجبل قاسيون، وصرخة منى واصف في «أسعد الورّاق»». ليس غريباً شعور ذاك المغترب، طالما أن سنوات العطاء المديدة أحالت «سيدة الشاشة السورية» إلى هرم فني وقعه مزلزل.
الكاريزما الساحرة والسطوة الأنثوية الساطعة تشعران المشاهد، بأنه أمام حشد من نساء قادرات على تغيير العالم، وقد جمعن في حظوة هذه الممثلة. ربما بدأت هذه التركيبة من الجينات الوراثية كونها ابنة زواج مدني متمرّد هدم البائد من العادات، وتفوّق على البالي من التقاليد بضربة واحدة. والدها كردي من الموصل، هاجر إلى الشام، وتزوّج شابة مسيحية وأنجبا بنات. لم يكن لديه مشكلة في أن يعملن في مختلف أنواع الفنون. هكذا، بدأت منى بمهنة عرض الأزياء، قبل أن تتقدم إلى مسابقة في «المسرح العسكري» وتتعيّن راقصة في ستينيات القرن المنصرم، وفترة الوحدة بين سوريا ومصر حين كانت البلاد تغلي بحالة انفتاح واضحة، وحراكات فنية عديدة. بعدها، انتقلت واصف للعمل في المسرح القومي، وقدّمت عبر تاريخها العديد من العروض المسرحية منها: «تاجر البندقية» لشكسبير (إخراج رفيق الصبان)، و«الزير سالم» لألفريد فرج، و«حرم سعادة الوزير» لبرانيسلاف نوشيتش (إخراج أسعد فضة).

تستعد لأداء دورها في الجزء
الثاني من «الهيبة»

ورغم شغلها السينمائي المتكرر في تلك الفترة، إلا أنها تأثرت بما قالته عنها الصحافة ذات مرة بأنها ملكة في المسرح، وكومبارس في غير ذلك. النظرة النقدية كان لها أن تتغير يوم اختارها المخرج مصطفى العقاد لتلعب دور هند بنت عتبة في فيلم «الرسالة» (1975). سيكون مشهد الانتقام من حمزة بن عبد المطلب، وأكل كبده، بمثابة استشراف منطقي بارع، لما وصلنا إليه اليوم بعد هذا الإرث المليء بالحروب، والدماء، وأكل القلوب وقطع الرؤوس. على جانب مقابل، ستتمكّن واصف قبل زمن الفضائيات والألوان حتى من صوغ دهشة متابعيها عبر عقود طويلة، يوم لعبت دوراً رئيسياً في سباعية «أسعد الورّاق» (1975) للمخرج علاء الدين كوكش عن رواية صدقي اسماعيل «الله والفقر»). الصرخة قادت عدداً من الممثلات المكرسات اليوم إلى عالم التمثيل. أيضاً، ستهدهد واصف جراح حشد من الجمهور يوم تغني في أحد أعمالها القديمة «هالأسمر اللون». كذلك وهي تردد الآية القرآنية التي تقول «سلام قولا من رب رحيم» بينما تغطّي أبناءها في الليل، ستعيد تجسيد اللقطة اليومية لملايين الأمهات، وتعيد تدويرها لكن بجرعات مفرطة من الحميمية، والتقاطات إنسانية عالية، إلى درجة لا يمكن لمشاهدها حبس دموعه.
الخزّان الإبداعي لدى الممثلة القديرة لا ينضب، بل إن صاحبته قادرة دوماً على الإدهاش، وإن كان التنويع والتراكم سيصبحان مع الكم الغزيز من الساعات التلفزيونية التي تعمل بها، ضرباً من المستحيل. إلا أن الهالة الخاصة، والثبات، والجدية المطلقة في التعاطي مع الشخصيات، هي التي تصنع مجد واصف وتمايزها حتى الآن. مما زاد سجلها العريق بصفحة نجاح إضافية لدى لعبها دور «إم جبل» في «الهيبة» (هوزان عكو وسامر البرقاوي ـ 2017). لا مساحة هنا إلا للإملاء بصورة قطعية، كأنها قائد عسكري ميداني. سطوتها العاطفية كأمّ تطاع من دون تردد أو تفكير، من قبل ابنها «شيخ الجبل» (تيم حسن) ستحيل تلك السطوة، بدهاء سيدة لا تهادن، إلى أوامر قاسية لا يمكن ردّها. حالياً تتحضّر واصف لأداء دورها في الجزء الثاني من المسلسل الذي يفترض أن يبدأ تصويره مطلع العام المقبل، فيما تمضي يومها حالياً بما يشبه الإجازة كما اعتادت في كل صيف منذ العاشرة صباحاً حتى الخامسة مساء في المسبح!
مشكلة منى واصف الوحيدة بأنها تاريخ عامر، ومتحف فني نادر ليس على بابه حرّاس. لذا، فإنه متروك لقرارها الشخصي بالتغلب على وحدتها ليس في القراءة فحسب، بل أيضاً بمزيد من الشغل مهما كانت نوعيته، إلى درجة أنها قدّمت أدواراً في مسلسلات دخيلة ومتهاوية على صعيد القيمة الفنية مثل «جريمة شغف» و«سمرا» وغيرهما الكثير. قد تحتاج نجمة «أسرار المدينة» (حسن سامي يوسف ونجيب نصير ــ هشام شربتجي) إلى إدارة أعمال ثاقبة تحميها من الخيارات التي لا تليق بمشوارها الدسم، وتضمن استمرارية مكانتها الاستثنائية التي حفرتها بأظافر من ذهب في وجدان أجيال متلاحقة.