لا تهدأ كاميرا المخرجة هالة بو صعب الباحثة والموّثقة لقصص إنسانية من رحم الخراب العربي، من أزمة اللجوء والهجرة والموت المجاني في عرض المتوسط، وقبلاً في العراق مع سلسلة «نزيف الرافدين» («مقاومة داعش»، «سبايا داعش» و«ضحايا داعش»)، التي عرضت على شاشة «الميادين»، بين نيسان (أبريل) وأيار (مايو) قبل عامين.
هذا الأحد، تستكمل بو صعب، جزءاً جديداً من هذه السلسلة بعنوان «نزيف الرافدين: كابوس داعش». وثائقي لا يمكن وصفه إلا بالقاسي والمؤثر جداً، لجهة واقعيته الفجّة التي تلتقطها الكاميرا.
فيلم (50 د) يزيل الغبار عن اللوحة الأخيرة التي تداولها الإعلام بعد تحرير الموصل (تموز/ يوليو الماضي)، وتمثل صورة للموصل القديمة مدّمرة ومنكوبة. خلف هذه الصورة وبيارق النصر، والأعلام العراقية التي احتفت بهذا النصر، يُخرج الفيلم من رحم هذا الركام، شهادات وقصص إنسانية يندى لها الجبين. تواكب كاميرا الشريط، فرق الإنقاذ، والشرطة العراقية التي أرادت انتشال نحو 70 شخصاً من تحت الأنقاض. بعضهم ما زال حياً ويسمع أنينه، لكن رصاصات القنص الداعشي، تحول دون إتمام هذه العملية. مشاهد نخالها مأخوذة من أفلام سينمائية خيالية، لكن سرعان ما تتبدى لنا المشهدية القاسية لأهل الموصل وهم خارجون من حصار امتدّ لأشهر، من الجوع والعطش و«التعوّد»، على مشاهد الموت والفقدان. وجوه كالحة، وألسنة لأطفال وصبية عطشى تنتظر نقطة من الماء لتروى، ووجوه أخرى ضائعة، لا تصدق أنها خرجت من الكابوس الداعشي. في المشاهد، تخلع النساء اللباس الأسود الذي أجبرن على ارتدائه، ينظرن الى عين الشمس، ليتيقنّ أنهن أصبحن خارج سطوة الظلاميين.
في هذا الفيلم الذي قصدت مخرجته تصويره على طريقة تلفزيون الواقع، من دون إجراء أي تعديل في الصورة، تخرج هذه الشهادات لعراقيات فقدن أسرهن بالكامل، يروين فظاعة ما شاهدنه من موت لأحبتهن أمام أعينهن، وكيف وضعن المنّوم لأطفالهن كي لا يسمع لهن صوت فيقتلون، وكيف لامرأة مطروحة أرضاً في فرق الإسعاف، تنتظر نظرة من ابنها الصغير قبل مغادرتها لهذه الحياة.

تطل علينا بسمة (9 سنوات) لتتحدث عن «بيعها» مراراً
إلى أن أنقذها عمها الذي
اشتراها من السوق!


تتكدّس القصص الإنسانية والموجعة في هذا الشريط، وصولاً الى الجزء الأقسى ربما، قصص الأطفال الذين سبيوا لدى «داعش»، واغتصبوا وتعذبوا، وبيعوا في أسواق النخاسة. تطل علينا بسمة (9 سنوات)، لتتحدث عن «بيعها» مرّات عدة لمن أسمتهم «العرب»، الى حين إنقاذها من قبل عمها الذي يشتريها من هذا السوق. تتحدث إسراء (8 سنوات) الطفلة الأيزيدية التي قضت مدة زمنية طويلة لدى التنظيم الإرهابي (3 سنوات)، كيف تنقلت بين ثلاثة منازل، فيما المؤكد أن هؤلاء الأطفال تعرضوا للاغتصاب عشرات المرات، ولمشاهدة فظائع القتل والتنكيل أمامهم. أما الفتيان، فيجبرون هم بدورهم على الدخول الى التجنيد الإجباري، ومشاهدة أفلام إجرامية، عن كيفية القتل وأدواته. والأنكى أن هؤلاء الأطفال جلبوا الى واقع ليس أقل مرارة، مع الظروف القاسية التي يحيون فيها، وغياب الدعم الاجتماعي والنفسي لهم، بشكل أساسي بعد مرورهم بهذه التجربة المريعة.
«كابوس داعش» يتوزع الى وجهتين: الأولى في «الموصل القديمة» قبل إعلان بشائر النصر بأيام قليلة، والأخرى عند الأيزيديين، حيث القسم الأكبر من الأطفال هناك (95 %) سيق الى «داعش». يعكس الشريط في نهاية الأمر، هذا الموزاييك الذي يتقاسم المعاناة نفسها في السبيّ والحزن، والاغتصاب والترحيل الى «الرقة» السورية.
إذاً، تغيب المؤثرات المستخدمة في الوثائقي، لصالح صورة عارية حيّة، تختصر كل المعاناة بصرياً وكلامياً (عبر الشهادات) «كي تكون الصورة صادقة»، خاصة في الأفلام الإنسانية، التي يجب «أن تترك لتتحدث عن نفسها» من دون افتعال أي جهد. هذا ما تقوله لنا المخرجة بو صعب، واصفةً «نزيف الرافدين: كابوس داعش»، بـ «تحفة» أفلامها طيلة حياتها المهنية. تبدو بو صعب سعيدة لأنها استطاعت أن تجسّد معاناة الموصليين والأيزيديين بالصورة، وتنقلها كما هي في الواقع على حد تعبيرها. هذا التجسيد بالتأكيد لا يتعلق فقط بتنفيذ الفيلم، بل يتعداه الى التوثيق «لازم نوثّق للتاريخ وللمستقبل وإلا ذهب الوجع هباء». إذاً، تتعدى وظيفة الوثائقي هنا، نقل الصورة، والمعاناة الى توثيقها، وحفظها، كي لا تمرّ مرور الكرام إنسانياً، ولتتحدث عما جرى في بلاد «الرافدين».
ورغم صعوبة التعاطي مع الأطفال، الذين لم يعبأوا للكاميرا، ولم يخجلوا منها، كبقية أبناء جيلهم، بسبب ما مروا به من فظائع، وقساوة شهادات باقي العراقيين/ات، الا أن الفيلم ينتهي بمشهد معبّر، موثق للقاء أم (ايزيدية) بابنها الذي هُرّب من «الرقة»، بعد أربع سنوات من احتجازه من قبل «داعش». لقاء حيّ وثقته كاميرا الشريط، تفيض فيه العواطف، ولحظات إنسانية عالية، لأسرة خالت أنها قطعت الأمل كلياً بلقاء ابنها الشاب.
الشريط الذي يفتح كوة ضوء بمشهد اللقاء المؤثر، والرسالة التي بعثها من خلالها بالقول بأن الاعتقال لن يدوم طويلاً، يختتم بعبارة «انتهى الظلام، مات داعش، انتهى داعش»، معلناً هزيمة التنظيم الإرهابي في الموصل، وأيضاً ملاقاته لمصير مشابه آخر في البقع التي يحتلها. تؤمن بو صعب في هذا السياق بأن «داعش فانية وتتبدّد»، وأن هذا الإرهاب سينتهي ويدفن نهائياً رغم الفظائع والندوب الكثيرة التي خلّفها على جسد مَن بقي حياً من الضحايا!

«كابوس داعش» هذا الأحد عند الساعة 21:00 على شاشة «الميادين»