تلتقط سالي روني (1991) الكلام الداخلي والخارجي وتقعده في صفحات الكتاب. إنها رواية شفوية، بعيداً عن أيّ ميل شعري، كان يمكن أن تكون حديثاً واحداً في رأس كل من فرانسس وبوبي، وميليسا ونِك، أو حواراً في حانة بين شخصين. تماماً كقصائد فرانسس التي لا تريد لها أن تنشر، مكتفيةً بتأديتها مع بوبي على المسرح. في روايتها «أحاديث مع الأصدقاء» (Hogarth)، تواجه الكاتبة الإيرلندية المجتمعات الثقافية ودوائرها في دابلن، من خلال بطلتها فرانسس التي تبلغ 21 عاماً. تدرس الشابة الأدب الإنكليزي في «جامعة ترينيتي» في دابلن، بعيداً عن والديها.

وتقضي معظم وقتها مع صديقتها بوبي، التي كانت عشيقتها السابقة لعام واحد في الثانوية. عبارة «بوبي وأنا» تفتتح مقاطع كثيرة في الرواية. تختلف الشابتان كثيراً، لكنهما تقرآن، وتؤديان الشعر في الحانات والنوادي الليلية، وتتفقان على أنّ الرأسمالية هي الوحش الأكبر.
عنوان الباكورة الروائية «أحاديث مع الأصدقاء»، لا يسلّم نفسه بسهولة. بساطته تسائل معنى أي علاقة بشرية، والالتباس الذي قد تحدثه بين حياتين مختلفتين، في محاولة لرسم ملامح الذات والآخر.
تقتحم سالي روني الموجة الإيرلندية الأدبية الجديدة برواية نسوية لافتة تدور في دابلن المعاصرة. سبق للشابة التي أنهت دراساتها العليا في الأدب الأميركي، أن كانت الأولى في مسابقات النقاش في الجامعات الأوروبية قبل سنوات. طوّرت اهتماماً بمواضيع الرأسمالية والفروقات الطبقية والتغير المناخي، والإجهاض، كما أن قصتها Mr. Salary وصلت إلى اللائحة القصيرة في مسابقة «صنداي تايمز» للقصة القصيرة.
في دابلن، تدور جميع الأحاديث قبل الأحداث... تلك المدينة التي شهدت قبل قرن حوارات ستيفن وكرانلي حول الدين والكاثوليكية في «بورتريه الفنان في شبابه» لجيمس جويس. تجد «أحاديث مع الأصدقاء» جذورها في دابلن الخارجة من أزمة اقتصادية عام 2008.

تخلّص الكاتبة أبطالها
من الصدامات المباشرة مع السلطات الدينية والأبوية

تحضر الرأسمالية في الرواية من خلال هواجس الشخصيات، بينما تطال حيواتها بشكل مباشر، تحديداً فرانسس التي لا تجد أحياناً مالاً كافياً لتأكل، وتخضع لفترة تدريب في العمل من دون الحصول على أي بدل مالي. «الرأسمالية تسخّر الحب لغايات ربحية» تقول فرانسس في حوارها مع بوبي، مضيفة «أنّني ضد الحب». لكن ليس كل ما يتلفّظ به أبطال الرواية، هو ما يقصدونه بالضبط. يصطدم الأبطال في هذه العلاقة الرباعية بظروف كثيرة تحول دون التعبير عن ذواتهم الحقيقية. أيعرفونها هم أنفسهم؟ تدعونا روني إلى التشكيك بكل ذلك، مثقلةً روايتها بأبعاد نفسية ثاقبة. تضع أبطالها بين هاويتين متباعدتين: نظرتهم إلى أنفسهم، وماهيتها الحقيقية وكيفية تجسيدها في الواقع. بالرغم من حضورها كمؤسسات متوارثة في المجتمع الذي يعيشون فيه، تخلّص روني الأفراد من الصدامات المباشرة مع السلطات الدينية والأبوية. الصراعات تكمن في بقع أكثر التصاقاً برؤوسهم ومشاعرهم. هكذا تتجاوز البحث في الهويات الجنسية ووعي أصحابها لها، أو أي عراقيل مع الخارج لإظهارها، في محاكاة للتقدّم اللافت الذي شهدته إيرلندا أخيراً في قضايا المثلية الجنسية. بوبي مثلية الجنس، وفرانسس ثنائية الجنس، فيما أفراد الرواية الآخرون منفتحون على التجارب الجنسية والعاطفية المختلفة، خارج العلاقات المؤسساتية المؤطرة. السرد في الرواية، محكوم بتلقائية أحاديث الأصدقاء وتعقيدها وطلاقتها. بتدفق أسلوب روني ودقتها في اختيار الكلمات، يدور الكلام شفوياً بين الشخصيات، ويصل إلى رسائلها الإلكترونية، وأحاديثها السريعة على الماسنجر. وبقدر ما تنهال الأحاديث من الأفواه، تصبح هذه التلقائية متعذّرة أكثر، أشبه بغلاف آخر يلفّ الذات. من خلال الصحافية والمصوّرة ميليسا، التي تظهر اهتماماً بشعر الثنائي، تجد بوبي وفرانسس نفسيهما في إحدى شقق دابلن الفخمة.
في هذا الجو الذي يحتضنهما، ويلفظهما في الوقت نفسه، تتفتح علاقة بوبي وفرانسس على حياة الزوجين ميليسا ونِك، فتصبح هذه العلاقة الرباعية منفذاً للمضي باتجاه الذات التي تحقق فشلاً ذريعاً في الواقع. تختبر الرواية أفكار الأبطال الشخصية وآراءهم في علاقتهم الأولى مع الأشياء، معظمها من خلال فرانسس. إذ أنّ الشابة الشيوعية كما تعرّف عنها بوبي، تبدو مأخوذة بكل مقتنيات الزوجين الثمينة، وبالطريقة التي يحضّر فيها نِك القهوة.
تعرّفت فرانسس إلى جسد نك في صوره على غوغل، قبل التعرّف إليه في العلاقة الجنسية التي تبدأها مع الممثل التلفزيوني والمسرحي الثلاثيني. تؤخذ فرانسس بنِك، بينما تنجذب بوبي إلى ميليسا. تنهار الحدود بين الأشخاص في الرواية. يلازم فرانسس شك دائم بحضورها في الأماكن العامة والتجمعات، وفيما إذا كانت تملك شخصية أم لا، كما قالت لها بوبي مرّة. تلعق فمها، وتشرب كأسين من النبيذ الأبيض قبل مواجهة الجمهور على المسرح، تشعر بتفوّق بوبي عليها اجتماعياً لكنها تواسي نفسها دائماً بـ «إنني الأذكى». بفضل نظرتها الساخرة والسلبية تجاه كل شيء التي راكمتها من خلال قراءاتها وثقافتها، ستنام فرانسس مع نك «من باب السخرية لا أكثر». قد لا يكون هذا الاعتراف صادقا تماماً، لكن روني التي تعفي أبطالها من قيود كثيرة، تمنحهم المراوغة والسخرية كآخر سبل النجاة من عالم البالغين وعلاقاته المستحيلة.