القاهرة | كان الطفل كارم لا يزال رضيعاً لم يتجاوز الشهور الخمسة حين توفي سيد درويش، لكنه كان قد صار شاباً ثلاثينياً حين اختير ليؤدي بطولة أوبريت «العشرة الطيبة» على مسرح الأوبرا المصرية سنة 1957، هو الأوبريت ذاته الذي سجلته الإذاعة المصرية في نسخة هي الأنقى صوتاً. القصة الفرنسية «ذو اللحية الزرقاء» التي مصّرها الأديب محمد تيمور ولحنها درويش، وأدى بطولتها عزيز عيد سنة 1920، أعادها كارم محمود ـ بصوته المذهل- إلى الحياة بعدما مات صانعاها شابين. مات المؤلف تيمور سنة 1921 عن عمر لم يتجاوز 29 عاماً، ومات سيد درويش سنة 1923 عن عمر 31 عاماً. أما كارم محمود، المولود في 1922، فقد امتد به العمر- قيل لأنه حافظ جيداً على صحته - إلى عام 1995. احتفظ بقدراته الصوتية إلى اليوم الأخير، لكن مجده الفني كان بين أربعينيات وستينيات القرن العشرين.
في مصادفة مدهشة، يمكن ملاحظة أنّ التاريخ الغنائي لكارم محمود يمتد بين ليلين متشابهين، أولهما هو «على قد الليل ما يطول» أغنية ــ أو ديالوغ - الافتتاح في أوبريت «العشرة الطيبة»، من كلمات بديع خيري، وثانيهما «أمانة عليك يا ليل طوّل» من كلمات فتحي قورة، ولحن شديد العذوبة لكارم محمود نفسه. بلى، فقد كان ملحناً كبيراً، ويمكن القول، كبيراً جداً، لحّن لنفسه ولغيره من أبناء جيله والأجيال اللاحقة، لكنه كان ذكياً إلى حد أن أجمل ألحانه كانت لنفسه، وأجمل ألحان مجايليه كانت له أيضاً. لكن كان ذلك - على أي حال - زمن الفنان الشامل. كان المطرب مغنياً وملحناً وممثلاً، وكان الممثل كذلك يعرف الغناء، بل يبدع فيه عند اللزوم. وفي «أغنيات» فؤاد المهندس وإسماعيل ياسين وعبد المنعم مدبولي أجمل الأمثال، أما كارم محمود الممثل، فرغم نجوميته التي منحته البطولة في 19 فيلماً خلال نحو 10 سنوات، فلا يمكن ـ مع ذلك - تذكّره كممثل، عاش إلى اليوم وسيظل عبر صوته الساحر وألحانه الشجيّة.

كان ذكياً إلى حد أن أجمل ألحانه كانت لنفسه، وأجمل ألحان مجايليه كانت له أيضاً

كانت الأربعينيات هي حقبة الملك المتوج محمد عبد الوهاب، وبعده، كانت أصوات لا يمكن منافستها منها عبد المطلب، وفريد الأطرش، وعبد العزيز محمود، ولاحقاً محمد قنديل. كانت تلك حقبة يتمتع حتى ملحّنوها بأصوات ساحرة، لكن كارم محمود، ببساطة آسرة وموهبة فذة، صعد فوراً إلى جوار هؤلاء العمالقة. ورث حلاوة صوته - كما يحكي مؤرخون - عن أبيه «أبو ريا» الذي تجعله الحكايات تاجراً تارة، وتارة أخرى شيخاً قارئاً للقرآن. ما يرجح الفرضية الثانية أن كارم عمل صغيراً في محل لإصلاح الملابس «رفا»، ما يعني أن الأب لم يكن على الأغلب من التجار أو الأثرياء. وأياً كان، فقد جاء من قريته في البحيرة شمال مصر إلى القاهرة ليلتحق بـ «معهد فؤاد الأول للموسيقى» («معهد الموسيقى العربية» لاحقاً). صوته الساحر فتح له أبواب المعهد ثم أبواب الإذاعة. ساعده أن مدير المعهد مصطفى بك رضا هو ذاته مستشار الإذاعة المصرية. هكذا تعهده بالتدريب في المعهد محمد حسن الشجاعي، وصفر علي، ودرويش الحريري، وفؤاد محفوظ، ومنحته الإذاعة فرصة غناء أوبريت «ليلة من ألف ليلة» لبيرم التونسي من ألحان من سيصير أحد رفاق دربه فيما بعد أحمد صدقي. كما غنى كارم لسيد درويش أوبريت «شهرزاد». ومن الأعمال الجماعية إلى الفردية، تقدم كارم بثبات وصار الشاب العشريني، الذي تخرج من المعهد في عام 1944 مطلوباً للرحلات الفنية في بلاد الشام، وللسينما في استوديوهات القاهرة. بعد تخرجه من المعهد بعامين، قدم أولى بطولاته السينمائية أمام الجميلة ليلى فوزي في «ملكة الجمال» (1946) الذي اشترك في إخراجه كل من توجو مزراحي ونيازي مصطفى. وتوالت الأفلام من «ورد شاه» (1948) إلى «معلش يا زهر» (1950) وصولاً إلى «نور عيوني» (1954) أمام نعيمة عاكف.
لكن في ظل انشغالاته السينمائية ورحلاته الفنية، تسبّب كارم ـــ بدون قصد - في تغيير تاريخ الغناء العربي، حين تأخر عن موعد إذاعة أغنية «يا سلام» التي كتبها المخرج حسن الإمام ولحنها عبد الحميد زكي. كانت الإذاعة بصدد بث الأغنية على الهواء، لكن كارم لم يحضر. ولعلاج الموقف، تمت الاستعانة بعازف مغمور لآلة الأبوا يقال إنّ صوته جميل. كان العازف هو عبد الحليم شبانة الذي أصبح فيما بعد عبد الحليم حافظ. غناؤه في ذلك اليوم بدلاً من كارم محمود وضعه على بداية طريقه الأسطوري.
أما كارم محمود، فواصل بصوته القوي الحاد الجميل، المدرّب على يد أساتذة معهد فؤاد الأول، صنع تاريخه الخاص، ومسلكه المميز في مسار أغنية شعبية الروح، رقيقة الكلمات. يغني من ألحانه أيضاً وكلمات أحمد منصور «سمرة يا سمرة/ مرة في مرة/ شغلني هواكي»، يغني من ألحان محمود الشريف وكلمات علي الشيرازي «على شط بحر بحر الهوى/ رسيت مراكبنا»، يغني «عنابي» من كلمات كامل الإسناوي وألحان حلمي أمين، ثم يعود ليلحن لنفسه من كلمات مصطفى الطائر «والنبي يا جميل حوش عني هواك».
الصوت الذي ورثه كارم من والده الشيخ أبو ريا، أورثه ابنه محمود. لكن الابن، نجل المغني وحفيد الشيخ، فضّل العمل الدبلوماسي. صار السفير محمود كارم، سفير مصر الأسبق لدى اليابان ولدى الاتحاد الأوروبي، انخرط في مباحثات منع الانتشار النووي واجتماعات دول عدم الانحياز. حياة بعيدة عن عالم الأب، ربما لأن كارم وعبد الوهاب وقنديل وفريد ومعهد فؤاد الأول للموسيقى... كل ذلك قد صار بعيداً جداً عن عالم اليوم، عالم السرعة الذي لا يرجو أهله الليل كي «يطوّل».