الجيل الجديد من القراء في بلادنا أغلبه لا يعرف شيئاً عن الثورة الثقافية (اسمها الرسمي «الثورة الثقافية البروليتارية العظمى») التي أطلقها الزعيم الصيني ماو تسي تونغ، الذي كان يشار إليه بصفة chairman mao. ومن المؤكد أن الأجيال الصينية الجديدة لم تسمع بذلك الحدث الذي هز بلادها وأثر سلبياً وعلى نحو غير منظور في المجتمع. إذ قضى «الحرس الأحمر» الذي أطلقه الزعيم ماو والقيادة اليسارية المتطرفة التي عرفت لاحقاً بصفة «عصابة الأربعة» ومنهم زوج الزعيم، على عدد غير معروف من المثقفين والأكاديميين الذين اتهمهم بعض الحزبيين بميول بورجوازية أو يمينية، فتعرض من بقي منهم على قيد الحياة لمهانات وأشكال مختلفة من التعذيب الجسدي والنفسي. ومن الجدير بالذكر أنّ «الثورة الثقافية 1966-1976» هذه جاءت بعد فشل سياسة الزعيم ماو التي عُرفت باسم «الوثبة الكبرى» التي قادت إلى مجاعة مدمرة في البلاد قضى بسببها ملايين من البشر الذي تضوروا جوعاً، مما دفع قيادات شيوعية إلى نقد سياسات الزعيم، ودفعه بالتالي هو وأتباعه إلى إطلاق هذه «الثورة» المرعبة.

سبق أن عرضنا في منابر أخرى مؤلفات باللغة الإنكليزية عديدة عن التعذيب، منها «داريوس رجالي: الديمقراطية والتعذيب»، و«مرنية الأزرق: التعذيب وفجر الإمبراطورية الكاذب - من الجزائر إلى العراق» وأخيراً «مجموعة علماء: مقالات في التعذيب». لكن أهمية كتاب «زريبة البقر - ذكريات عن الثورة الثقافية الصينية» (new york review books ــ 2016 ــ مترجم عن الصينية) أنه بلسان الضحية البرفسور جي كسيَنلِن (1911-2009). هو أكاديمي صيني مرموق متخصص في اللغات الشرقية ورئيس قسمها في جامعة بكين، درس في ألمانيا (1935 - 1945) وعاصر جنون التعصب النازي والعنصرية وعبادة الفرد، ومؤيد للثورة الصينية الشيوعية، وعضو في الحزب الشيوعي وكان مؤيداً لثورة الزعيم ماو الثقافية. صدر مؤلف The cowshed: memories of the chinese cultural revolution في بكين بما يعرف مجازاً باللغة الصينية في عام 1998 عن دار نشر حكومية. واحتاج الكاتب إلى خمس سنوات إلى إتمامه في عام 1992، وأبقاه سنين عديدة مخفياً في أدراج مكتبه، إلى أن حانت فرصة نشره في بلاده. لكن ترجمته الإنكليزية لم تصدر إلا في العام الماضي.
كون الكاتب عايش تلك المرحلة، فإنه يذكر أن جامعة بكين كانت الموقع الأول الذي اختاره «الحرس الأحمر» لتجاربهم الراديكالية. إذ سرعان ما تحولت إلى «حديقة حيوان» فوضوية تتنازعها مختلف المجموعات الراديكالية التي كانت تهاجم الطلاب والأساتذة وتتهمهم بالميول الرأسمالية (capitalist-roaders). أما عنوان المؤلف، «زريبة البقر»، فهو الاسم الذي أطلق على السجون العشوائية التي أنشأها الحرس الأحمر في الجامعات. لكن كان على المساجين بناؤها، وقضى المؤلف فيها تسعة أشهر، إضافة إلى السجن في أمكنة أخرى والعمل في القرى تحت «إمرة الفلاحين الأميين المتوحشين والهمج» الذين أوكلت إليه مهمة إعادة تثقيف النخب الأكاديمية وتعلم أقوال الزعيم ماو وترديدها يومياً. يقول الكاتب إنّ الاسم مشتق من وصف نزلائه بأنهم البقر الشيطانية.

انقسمت إلى تيارين متصارعين، كل منهما عد نفسه اليساري الحقيقي


من الأفضل هنا ترك الكلام للكاتب لوصف المعاملة التي تلقاها هو وغيره من المعادين للثورة، كما كانوا يوصفون، حيث قال: «إن المعاملة كانت لا إنسانية، ولا أقول حيوانية لأن الحيوانات، على عكس البشر، لا تكذب ولا هي مخادعة، ولا تلقي خطباً سياسية مفعمة بالإشارات إلى الصراع الطبقي...».
في وصفه لأشكال التعذيب التي مورست ضده، يقول: «إنّ رؤية الغرب للجحيم كما ورد لدى دانتي مبسط على نحو غير مسبوق وساذج ومدجن وسطحي وعديم الخيال وكوميدي، ولا يمتلك عمق الجحيم في الثقافة الهندية التي جعلت من المؤسسة الصينية الشريرة باغودا رعب حقيقية». ويضيف: «دانتي شخصياً كان سيتعلم منها».
لا يخلو المؤلف أحياناً من المرح، إذ يقول إنّ بعض طلابه الذين أصبحوا من الحرس الأحمر حضروا محاضراته عن البوذية ليس لتعلم تاريخها ومعتقداتها، بل للاطلاع على الجحيم في تلك الثقافة ذات الثمانية عشر مستوى لأنهم تمكنوا من تحويل النظري إلى عملي في زرائب البقر.
وفي مكان آخر من المؤلف، قال الكاتب إنه قام بتحطيم كافة ممتلكاته في منزله قبل زيارة الحرس الأحمر. وعندما لاحظ أحدهم أن صورة الزعيم ماو المعلقة على الحائط لم تكن مغطاة بالغبار، اتهم الكاتب بأنه أحضرها حديثاً لإيهامهم بأنه موالٍ، لكنه رد عليهم بالقول إنه كان حريصاً على مسحها يومياً ومنحها ما تستحقه من تبجيل!
يذكّر الكاتب القارئ بحقيقة أن الثورة الثقافية، التي كان شعارها «الفوضى تربك العدو» عنت أن كل موقع، كل معمل وكل مصنع وكل مؤسسة حكومية وكل مدرسة وكل وحدة إنتاج، انقسمت إلى تيارين متصارعين، كل منهما عدّ نفسه اليساري الحقيقي. كل طرف منهما كان يعتدي على البشر ويستولي على ممتلكاتهم أو يتلفها ويقتل الأبرياء. هذا الانقسام امتد ليصيب العائلات أيضاً، إذ قام الأبناء بالتشهير بالآباء. كل فرد كان إما مدعياً أو مدعى عليه، لكن كل مجموعة كانت معرضة للانقسام فيتحول المتهَم إلى مدعٍ وبالعكس. التحول كان مثيراً للدوار مثل التشكيلات العسكرية المعقدة.
هذا جعل الكاتب يقول إنه خلال ثمانين عاماً من القراءة، لم يصادف أي حركة مثيلة ما يستوجب دراسة هذه الظاهرة اجتماعياً ونفسياً. ولذا، فإنه يشدد على أنّ أحداً لم يدرس أسباب اندلاع الثورة الثقافية، التي يصفها بأنها كارثة وحشية قادت البلاد إلى حافة الانهيار. لكنه في الوقت نفسه، يقول إن المجتمع الصيني فارغ أخلاقياً والحكومات المحلية غالباً ما تكون فاسدة، وكثير من الأفراد فيها عديمو الكفاءة، وأنه في حال البحث في جذور هذا، فسيتأكد أنه بسبب الثورة الثقافية. ولذلك «فإن وطننا الاشتراكي ارتكب فظائع يخجل منها حتى أباطرة الصين». ويقول الكاتب: «الثورة الثقافية لم تكن ثورة ولا علاقة لها بالثقافة. كانت سنوات عشراً من الكوارث حيث عانت البلاد خسائر لا حصر لها، مادياً وفكرياً، لذا فإنها خير مثال لما وجب تجنبه».
أخيراً، إضافة إلى حقيقة نشر دار صينية حكومية هذا العمل، فمن المفيد ذكر أن رئيس الوزراء الصيني حينئذ زاره وأعاد إليه الاعتبار.