الرباط | يوجد في المغرب كتّاب ينشغلون فقط بالكلمات التي تقع بين أيديهم، يحولونها من طين إلى تحف من الخزف الجميل، وهم منهمكون بالكامل في العمل الهادئ والصامت داخل ورشهم الخاصة، لا يغريهم في المقابل الانشغال بالتسويق والترويج لأعمالهم.
وربما ذهابهم إلى الكتابة، مبنيّ على ثقافة الزهد والتخلّي، وعلى روح القناعة بما يوجد خارج الأدب.
محمد غرناط (مواليد 1953 في مدينة بني ملال) الذي غادرنا ليلة السبت الماضي، بعد فترة طويلة من المرض، ينتمي إلى هذه الفئة، فالرجل انخرط باكراً في كتابة القصة والرواية بروح الدراويش والمجاذيب. كان يتقمص روح نحّات يُعمِل إزميله في الرخام بتفانٍ وبنشوة خاصة، غير معني بما يوجد في الخارج. منذ وصوله إلى أرض الكتابة، آمن بمقولة قديمة لفرانز كافكا: «كلّ ما ليس أدباً يقلق راحتي». ويبدو أنّ عمله القصصي الأخير «مرايا الغريب» الذي صدر قبل شهرين يشبه من حيث العنوان حياةَ وتجربة كاتبه الذي آثر العيش بعيداً عن صخب الحياة الثقافية، قريباً إلى أقصى حدّ ممكن من نفسه ومن نصّه.
منذ عمله السردي الأول «السفر في أودية ملغومة» الصادر سنة 1978 وهو يكتب نصّه بدأب وهمة، ثم يجتهد كي ينساه ويتجاوزه، هو الذي كان يرى أنّ النص يصبح ملكاً للقارئ فور الانتهاء من كتابته ونشره، وملزِماً بذلك للكاتب بالبحث عن نص آخر جديد. كما كان يتخوّف من الكتابات النقدية التي تجامل القاصّ والروائي المغربي اليوم، معتبراً أنّ كل حديث نقدي مبني على المجاملة، يكون عائقاً أمام تطور الكتابة.

على مدار عقود، انشغلت كتابته أكثر بصوتها الداخلي
في السياق ذاته، كان يرى أنّ إعجاب الكاتب بنص معيّن وارتباطَه القوي به يقضي على تجربته. لذلك، حرص على أن تكون كتابته على مدار عقود منشغلة أكثر بصوتها الداخلي، وبضرورة الانتقال بهذا الصوت من مرحلة إلى أخرى في مسعى مستمر إلى تجويده.
كان محمد غرناط يؤمن بأن الكاتب لديه الكثير ليقوله، لكنّ الإشكال المهم هو بأي لغة سيقول ذلك، فهاجس الأسلوب وشكل الكتابة قد شغلاه بالفعل لفترة طويلة. قبل سنوات، أقيم له لقاء دراسي حول أعماله، وأعاد إثارة هذه القضية: «موضوع اللغة طرحته على نفسي بشكل جدّي حينما نشرت مجموعتي القصصية الأولى (السفر في أودية ملغومة)، صارت اللغة من مشاغلي الأساسية، صارت همّاً دائماً». وكما انشغل باللغة والأسلوب وبتقنيات الكتابة، حرص أيضاً على تنويع تيماتها: الحلم، الحنين، الموت، الزمن، الواقع، السجن، المرض، التحولات النفسية...
لم يكن غرناط كاتباً للقصة والرواية فحسب، بل كان أيضاً أستاذاً جامعياً متخصصاً في تدريس هذين الجنسين الأدبيين. غير أنه في العديد من اللقاءات التي دُعي إليها، كان يفضل أن يقرأ نصوصه، ويتفادى الحديث عنها. سئل في إحدى الندوات عما إذا كان الواقع يشغله، فأجاب: «الواقع يشغلنا جميعاً، لكن في الكتابة يشغلني النص».
خلال هذه السنة، أصدر نادي القلم في المغرب كتاباً جماعياً يحتفي بأدب صاحب «الأيام الباردة» قام بإعداده الناقد بوشعيب الساوري، وحمل عنوان «معابر التخييل الروائي والقصصي في التجربة السردية لمحمد غرناط»، شارك في تأليفه كتّاب ونقاد من داخل المغرب وخارجه.
خلّف الراحل مجموعة مهمة من الأعمال القصصية والروائية من بينها: «الصابة والجراد» (1988)، و«داء الذئب» (1996)، «متاع الأبكم» (2001)، و«الحزام الكبير» (2003)، و«دوائر الساحل» (2006)، و«هدنة غير معلنة» (2007)، و«حلم بين جبلين» (2008)، و«تحت ضوء الليل» (2010)، و«خلف السور» (2012)، و«الأيام الباردة» (2013)، و«معابر الوهم» (2014)، و«البرج المعلّق» (2015)، و«مرايا الغريب» (2017).
ربما ما ضاع على القرّاء في حياة محمد غرناط، هو نظرته النقدية إلى الرواية والقصة، حيث كان يُفترض أن يترك كتباً في النقد النظري والتطبيقي حول الكتابة السردية... هو العارف الكبير بتاريخها وأسرارها، مستثمراً بذلك مرجعيته القرائية الشاسعة، وخبرته في تدريس الأدب.