حين قررت أن أقدم شهادة بموسى وهبة، تهيبت الأمر لأنني احترت أيّ المداخل أختار. لكن حين استعرضت تاريخ هذه الشخصية، وجدت أن الدخول الى حديقتها لا يكون إلا من باب الصداقة، فحزمت أمري وقررت لأن باب صداقته لم يوصد يوماً في وجهي. موسى ليس شخصاً عادياً نمرّ بالقرب منه من دون أن يستوقفنا كما استوقف كل الطلاب الذين مرّوا في قسم الفلسفة من الجامعة اللبنانية.
استوقفهم وأثّر فيهم وبات مرجعهم المعرفي حتى في المواد التي كان سواه يدرّسها، ولا عجب في الأمر لأنه كان ولا يزال مرجعنا المعرفي الفلسفي، طلاباً وأساتذة حتى ولو كابر بعض الأساتذة وأنكروا ذلك. وهنا أشهد أنه أفضل من علّم الفلسفة، على الأقل في الجامعة اللبنانية، ولا غرابة في ذلك، فهو يحب التعليم ويؤدّيه بكل جدية ومن دون سخرية كما هي طباعه خارج هذا الدور.
فيا أيها الصديق العزيز، أعبر باب حديقتك متسلحة بمداخلتك القيمة في أحد اللقاءات الفلسفية، حول الفلسفة والصداقة أو أزمة اليونيفرسال حيث ميّزت بين الفذلكة والفلسفة. وأقول لك إنّ الالتزام بالقول الفلسفي أمر لا يتقنه كثيرون، وقول غالبيتنا من باب الفذلكة مع ادعاء غبي بأنه قول فلسفي بينما قولك هو قول فلسفي بكل معنى الكلمة، وربما كانت من هنا ندرته أو بخلك في البوح به.

لقد نحتّ مثلاً مصطلح «أفهوم» مقابل concept الذي كان سائداً قبلك
ربما كان ذلك من باب الحرص على هذا القول الرفيع كي لا يرمى للجهلة، أو ربما كان من باب الكسل الذي الومك عليه أحياناً لأنني أجد ان قولك المعلن او المكتوب والمنشور لا يتناسب مع حجم مخزونك المعرفي الضخم. لكن هذا اللوم يسقط إن استعرضنا ما قمت به من ترجمات قيمة تتطلب الصبر والمعرفة وبخاصة الثقافة الواسعة جداً، فمن يترجم «نقض العقل المحض» لكانط، من يغامر وينجح في ترجمة أصعب الكتب، «مباحث منطقية» لهوسرل، لا يمكن أن نتجنى عليه ونتهمه بالكسل. وان لم تعطنا مؤلفاً فلسفياً متكاملاً مذيلاً باسمك الكريم، فقد قدمت لنا ربما ما هو أهم. ففلسفياً اعطيت الكثير ويكفينا ما ابدعته من أفاهيم بحيث صار لنا فلسفة بالعربية. وان كانت الفلسفة هي إبداع الأفاهيم كما يقول دولوز، فأنت فيلسوف بامتياز لأنك أوجدْت لنا، نحن الذين يتعاطون بالفلسفة جملة من الأفاهيم التي اشتغلت عليها واشتققتها من صلب اللغة العربية ومطواعيتها تلك اللغة التي كانت مغلقة على القول الفلسفي وبخاصة الحديث منها والمعاصر. لقد نحتّ مثلاً مصطلح «أفهوم» مقابل concept الذي كان سائداً قبلك، كما ابدعت مصطلح «علمان» مقابل savoir ومصطلح «وعيان» «السياه» و«الإياه» و«الفيماء» وبالأخص المصطلح الذي أحببته جداً وهو «أنغوصة» مقابل angoisse وغيرها. فشكراً لك لأنك مكنتنا من أن نجد قولاً فلسفياً بلغتنا الأم، فبفضلك وفضل القليل من أمثالك بات لنا فلسفة بالعربية.

* روائيّة وأستاذة الفكر الفلسفي المعاصر في الجامعة اللبنانيّة