معركة تحرير جرود «عرسال» التي انطلقت إعلامياً قبل الميدان، أعادت رسم خريطة شعبية وإعلامية جديدة، موحدة هذه المرة. جاءت هذه الخريطة بعد ست سنوات على اندلاع الأزمة السورية، التي أفرزت انقسامات عامودية بالجملة، وعزّزت الشرخ بين مؤيد ومعارض لتدخل «حزب الله» في سوريا.
معركة عرسال التي بدأت عسكرياً يوم الجمعة الفائت، انسحبت خلفها مشهدية مختلفة، أعادت الى الأذهان حرب تموز 2006، التي خاضتها المقاومة بوجه الغطرسة الإسرائيلية، فكنّا أمام شبه إجماع شعبي وإعلامي، مع استمرار الأبواق عينها التي تئنّ اليوم، وكانت في الماضي تمنّي النفس بخسارة المقاومة هذه الحرب، وتدعو الى سحق الحزب.
بعد 11 عاماً على انتصار المقاومة بوجه آلة الحرب الصهيونية، في معركة تاريخية أسطورية، أعادت معركة جرود «عرسال» هذه المشهدية، مع اختلاف ظروفها اللوجستية والسياسية والطرف المخاض ضده هذه المعركة. لكن لا شك في أنها خلقت هذا الإجماع الشعبي، الذي غاب طويلاً بفعل الانقسام السياسي، وأيضاً بفعل تأثير البروباغندا الخليجية الضخمة التي عملت على مذهبة الصراع، ودعم التطرف الداعشي وأعوانه.
للمرة الأولى بعد كل هذه السنوات، تتوحد أغلبية المنابر الإعلامية اللبنانية، ما خلا إعلام «المستقبل» ومتفرعاته، تحت راية مقارعة الإرهاب. حتى إنّ الخارجين عن هذه المنظومة والمناهضين للحزب، أرغموا على السير بها، أو لقوا نصيبهم من الهجوم حتى من مؤيديهم. هذا ما حصل حين غرّد حساب «قوى 14 آذار» على تويتر، معلناً «ارتفاع عدد قتلى ميليشيات حزب الله في معارك تلال عرسال الى 17». تغريدة ما لبثت أن تنقلت بين حسابات الناشطين، ولاقت امتعاضاً وهجوماً صاعقاً من أقرب المقربين الى هذا الخط. هذه المنابر وسواها مثل إذاعة «صوت لبنان» (الأشرفية») التي أعادت نسخ ما وزعته قناة «الحدث/ العربية» من استخدامها مصطلح «ميليشيا حزب الله»، و«قتلى»، كانت بقعة سوداء صغيرة في بحر الحشد الذي أمّنته باقي المنابر اللبنانية. اتكأت الأخيرة على مصدر وحيد فرضته المعركة هو «الإعلام الحربي»، المولج بتوزيع المعلومات والصور والفيديوات حول سير المعركة العسكرية، مع توزع مراسلي القنوات المحلية على مقربة من المعركة، لنقل ما يحدث، والتوسع في ما بعد بمواضيع متفرعة كالوقوف على حال أهالي شهداء الجيش الذين قضوا على يد «النصرة»، والآخرين الذين ما زالوا محتجزين لدى «داعش»، كما فعلت mtv، أو التركيز على ما أسمته lbci «مكاسب حزب الله من معركة عرسال»، بتقرير (ريما عساف)، يفند «أهداف» الحزب في هذه المعركة من «إمساك بالحدود اللبنانية - السورية»، و«تحويلها إلى «مناطق آمنة»، وأيضاً «حماية خطوط إمداده العسكري من سوريا». تغطية هذه المعركة لم تتح بالفعل تحرّكاً ميدانياً للمراسلين، ولا لعدسات كاميراتهم، حتى إن الدخول الى بلدة عرسال كان محظوراً، واستعين بلقطات مصوّرة من الأهالي داخلها لعرضها في تقارير تلفزيونية، بغية نقل الأوضاع هناك، أكان أوضاع النازحين أو العراسلة.

«العربية» تتشفّى بالشهداء و«سكاي نيوز» تساوي بين التكفريين والحزب



إذاً، كنا أمام صورة إعلامية جامعة، لمنابر أجبر بعضها على ركوب موجة التضامن والتكافل في هذه المعركة، لأن الخروج عن هذه الصورة يعدّ مغامرة غير محسوبة، بما أن القتال يطال الجماعات التكفيرية التي تهدد لبنان، وزرعت انتحارييها في مناطقه المتفرقة، ونكلت وذبحت عسكرييه، حتى إنّ بعضهم راح يمنّن بأنه يناصر الحزب بوجه التكفير كما فعلت mtv بمقال ساذج على موقعها الإلكتروني أمس. إذ أوردت: «وحين نُخيّر بين السيّد حسن نصرالله وبين أبو مالك التلي، فلن نتردّد في الاختيار، لا بل لن نقبل بمجرّد المقارنة»، في خلط عشوائي سطحي. وكان لافتاً ما نشره نقيب الصحافة عوني الكعكي في صحيفة «الشرق»، تحت عنوان «هل أصبحت عرسال أهم من القدس؟»، يسأل فيه عن توقيت المعركة، بالتزامن مع «التصعيد» في القدس، ويؤكد فيه «أن هناك اتفاقاً بين إيران وإسرائيل حول ضرورة صرف أنظار العالم عن القدس»، وأن «حزب الله» يعمل عند المخابرات السورية لينفذ مصالح رئيس ظالم ومجرم يقتل شعبه». وأنهى الكعكي هذا المقال «القيّم» بالسؤال: «ما علاقة حزب الله بمعركة عرسال التي تحدث بين مواطنين سوريين وبين النظام السوري»؟ لم نعلم حقيقة من هم «المواطنون السوريون» الذين قصدهم؟ هل هم «النصرة» و«داعش»؟
ومع استهداف أحمد الفليطي نائب رئيس بلدية عرسال السابق والوسيط مع الجماعات المسلحة من قبل «فتح الشام»، ومحاولة بعض المواقع الموتورة إثارة الفتنة عبر القول بأن الحزب هو من اغتال الفليطي، بدأت مناوشات صغيرة تدور بين القنوات المحلية على خلفية تصريح رئيس بلدية عرسال باسل الحجيري لقناة «الجديد» بأنه «يشكر حزب الله». أمر نفاه في ما بعد وشنّ هجوماً صاعقاً على المحطة، علماً أن الأخيرة نشرت التسجيل الكامل له، ويبين أنه فعلاً شكر الحزب على تطهير عرسال وجرودها من المسلحين. إلا أن قناتي nbn وmtv، دخلتا على هذا الخطّ لرمي «الجديد» بالسهام مجدداً، وتظهير موقف الحجيري الناقم من المحطة.
هذا على الخط المحلي. أما فضائياً، فكان لافتاً تعاطي «الجزيرة» مع معركة «جرود عرسال»، التي أبعدت عن الحزب تسمية «الميليشيا» كما دأبت دوماً، وكذلك وصفت الجيش السوري بـ «قوات النظام السوري»، لا «بالجيش الأسدي». في المقابل، كانت «العربية» تتشفى وتظهر أكثر «قتلى حزب الله»، وتبث الخوف من تحول المعركة الى داخل بلدة عرسال، وسط وجود أكثر من 150 ألف لاجئ سوري هناك. وانبرت تسأل عن توقيت هذه المعركة الذي اعتبرته «مبهماً»، كما جاء في تقرير سابق لراغدة بهنام التي دخلت عرسال، وكانت على مقربة من جرودها قبل بدء المعركة الميدانية، وركزت على استصراح أحد الأهالي هناك. اعتبر الأخير أن «الحزب مثله مثل باقي المسلحين المحتلين لأرضنا»! لعلّ شبكة «سكاي نيوز» الإماراتية تعدّ في أدائها الإعلامي إزاء هذه المعركة من أشرس الأبواق الإعلامية، إذ دأبت على بث دعاية مضادة تنذر بخسارة كبيرة للحزب (تركيز على أعداد الشهداء المرتفع)، وساوت بين التكفريين والحزب، وأصرّت على وصفهما بـ «الميليشيات» و«الإرهابيين».





مقدمات نشرات الأخبار: تموز الانتصارات


لم يكن مستغرباً ما خطته «الجديد» أول من امس، في مقدمة نشرة أخبارها، من بث لروح الحماسة ودعم مطلق للمقاومة، وتشبيه ما يحدث في عرسال بما حصل قبلاً في حرب تموز (2006)، مع تقاطع «النهايات» بين التموزين بحتمية الانتصار. مقدمة (كتابة مديرة الأخبار والبرامج السياسية مريم البسام) أغدقت على المجاهدين أوصاف البطولة والكرامة. وللمرة الأولى ربما في تاريخها، جاءت مقدمة نشرة lbci بهذا الموقف الحاسم، الذي ابتعد عن العموميات واللون الرمادي. وسرعان ما لبثت أن أضحت حديث السوشال ميديا، وأعاد الناشطون نشرها مرات عديدة. مقدمة عاطفية بليغة كتبتها مديرة إنتاج الأخبار، لارا زلعوم، وتحدثت فيها عن «شبان حزب الله» الذين سيحفظ أهلهم «وجوههم وضحكاتهم وذكراهم»، وعن شبان الجيش اللبناني الذين ذبحوا، وآخرين يحمون الحدود ويتقاطعون مع الحزب في «رفقة السلاح». طبعاً، نجحت lbci في استثمار هذه الموجة الشعبية وقطفها. لم تلبس القناة قفازات لتعلن هذا الموقف، فنجحت في سرقة الضوء من غريمتها «الجديد» التي ما زالت محظورة عن مناطق تشكل ثقلاً شعبياً لها. إلى جانب هاتين المقدمتين البارزتين أول من أمس، كان لافتاً الموقف المهادن الذي برّزته mtv في تعاطيها مع معركة «جرود عرسال»، وتأكيدها أنّ «الحزب يحقق نجاحاً أكيداً، ويوسّع سيطرته على حساب المسلحين».
زينب...





تغريدات النجوم والإعلاميين: عودوا الينا منتصرين

الثقل الأساسي لمعركة جرود عرسال، لم يكن على الشاشات التقليدية، بل على المنصات الإفتراضية. احتشد الناشطون والنجوم وشخصيات لها ثقلها. في هذه المعركة، عبّر عدد كبير من هؤلاء عن مواقفهم الواضحة مما يجري، حتى المقلّين منهم بالتواجد على هذه الشبكات أو التصريح بآرائهم السياسية والوطنية. نذكر مثلاً الممثل بيتر سمعان الذي انتقد تغريدة «قوى 14 آذار»، وغرّد: «قوى١٤آذار عيب نعدّ شهداء حزب الله... خلونا نعدّ قتلى النصرة والارهابيين. بلا تخبيص كلنا لبنانية». وكانت لافتة تغريدة الإعلامي نيشان الذي انتقد موقف «14 آذار»، وسأل: «هل هو عقم في اللغة أو عقم في القوى؟ قوى كانت فاعلة فأضحت مفعولاً بها. أسلوب خاسىء في التغريد». تغريدة جريئة من نيشان، سحبت خلفها مواقف قاسية ومناهضة أغلبها آتية من مغردين خليجيين أصروا على وسم الحزب بـ «الإرهابي». الى جانب نيشان، جذبت تغريدة الممثلة رولا حمادة، الأنظار بقولها: «تموز شهر البطولات والكرامة المستعادة، قلوبنا وصلواتنا معكم. عودوا الينا سالمين منتصرين». وكرّت السبحة في مواقف النجوم الداعمة للجيش والمقاومة كورد الخال التي استعادت أغنية «لبنان يا توب الحرير» التي أُنتجت إبان حرب تموز، وشقيقها يوسف الذي اختصر المعركة بكلمات بسيطة: «جيش مقاوم ومقاومة جيش». الى جانب تغريدات النجوم التي اكتفى بعضها بدعم الجيش فقط كنجوى كرم، وآخرين لم يتوانوا عن دعم المقاومة والجيش معاً كماغي أبو غصن، وسيرين عبد النور، دوّن الشاعر نزار فرنسيس: «في بلادي رجالٌ.. عجِزَت أرحام نساء الأرض أن تلد مثلهم».
زينب...