نفهم أن يختار برنامج «كلام الناس» أن يَعقد حلقتَه الأخيرة (الخميس الماضي على lbci) في قلعة بعلبك؛ فالغضب البعلبكيّ عارمٌ على «لجنة مهرجانات بعلبك الدولية» بسبب استضافتها فرقةَ «تريو وانديرر» التي عزفتْ في الكيان الصهيونيّ (إيلات) مرتين .
والمعلوم أنّ المشاركة في أيّ نشاط فنيّ أو ثقافيّ أو أكاديميّ داخل هذا الكيان يُعتبر، في رأي حملة المقاطعة العالمية (BDS )، لا في رأي حملة المقاطعة في لبنان فحسب، طمساً لجرائم الكيان و«تلميعاً» لصورته الدموية، بإظهاره قِبلةً للفنّ والحضارة. هكذا بدت حلقةُ «كلام الناس» كأنّها «تضامنٌ» (هشّ) مع اللجنة المذكورة، التي لا تقيم وزناً لـ «لقاء بعلبك ضد التطبيع »، ولا لمشاعر الناس ولا لشهدائهم ولا لتاريخ المدينة النضاليّ في وجه «إسرائيل».
لكنّ اللافت أن تَعرض الحلقة «استفتاءً» قام به الضيفُ الرئيسُ في الحلقة، عازفُ الترومبيت اللبناني ـ الفرنسي إبراهيم معلوف، عن أهمّ «قيمةٍ» لدى العالم (الحبّ، العائلة، السلام، الجنس، السعادة...)، وأن يكون من بين المستفتين أحدُ الإسرائيليين. بدلاً من أن يعلِّق مقدّمُ البرنامج، الأستاذ مرسيل غانم، على لاقانونيّة التواصل (الإرادي!) مع الإسرائيليين أصلاً، اختار حذفَ الرأي الإسرائيليّ بحجّة عدم إثارة «خْبار» (مشاكل) بسبب «غباء» بعض المحلِّلين المحتملين.
نقاش إبراهيم معلوف في رأيه عن التطبيع يحتاج إلى كلامٍ مستفيض، لكننا سنعرض هنا النقاطَ الأبرز. فهو قد رفض العزفَ في إسرائيل «الكولونيالية» (التعبير له )، على اعتبار أنّ «وطنه الأمّ في حالة حربٍ وعداءٍ» معها ؛ وهذا موقفٌ يُسجَّل له بالتأكيد، مع أنه يُفترض أن يكون أضعفَ الإيمان بالنسبة إلى غالبية الللبنانيّين والعرب. لكنّ رفضَه هذا، بحسب مقابلة مع جريدة «الأخبار»، جاء مرتبطاً بوقف الإسرائيليين للقتل والاحتلال (يقول في المقابلة: «لتتوقّفْ إسرائيل عن القتل والاحتلال ولتصنعْ سلاماً مع الفلسطينييّن»)، كأنه يُقرّ ضمناً بقبوله للاحتلال الإسرائيلي داخل فلسطين 48 (وإلّا فلماذا «السلام» أصلاً ومع من؟)، أو كأنّه يؤْمن بإمكانية وجود إسرائيل من دون «قتلٍ واحتلال» (على طريقة الصهيونيّ الناعم دانييل بيرينبويم). ونحن هنا نستند، كما ذكرنا، إلى مقابلةٍ جرت معه في «الأخبار»، لا إلى ما قاله الإسرائيليُّ دوبي لَنز (أحدُ مديري أكبر مهرجان للموسيقى في الكيان الصهيونيّ) من أنّ معلوف كان يرغب في الذهاب إلى حيفا... لولا أنّ له «عائلةً في بيروت »!

أهان أنصارَ مقاطعة اسرائيل متهماً إياهم بالغباء

فلنعدْ إلى غانم. غانم، الذكيّ جدّاً، فظٌّ جدّاً أيضاً، لأنّه يَعتبر كلَّ مَن رفض التواصلَ مع الإسرائيليين أغبياء. فهل هذا هو كلامُ «الناس» حقّاً، أمْ كلامُ جزءٍ من الناس فحسب، ولا يمثّل في كلّ الأحوال رأيَ شريحةٍ كبرى من أهل بعلبك (حيث تجري المقابلة)، مدينةِ المقاومة والشهداء؟ بل إنّ إهانةَ غانم لمُقاطعي التواصل مع الإسرائيليين لا تمثّل الموقفَ الرسميَّ اللبنانيَّ نفسَه، الذي يرفض (بحسب القانون الصادر سنة 1955) أيَّ نوع من التعامل مع الإسرائيليين، ولو كانوا «فنّانين»؛ والدليل منعُ الفيلم الذي بطلتُه جنديّةٌ إسرائيلية، اسمُها غال غادوت، مؤخّراً من صالات لبنان (وصالاتٍ عربيةٍ عديدة)، وكذلك منعُ فيلم «الصدمة» قبل أعوام بسبب تواصل مُخرجه، زياد دويري، مع الإسرائيليين طوال 11 شهراً في تل أبيب.
إذن، بحسب غانم، سيكون غسّان كنفاني ووديع حدّاد وناجي العلي، كي لا نذْكر آخرين من قادة المقاومة والمقاطعة الرافضين لأيّ تواصلٍ مع العدو، أغبياءَ؛ ويصبح محمود عبّاس وصائب عريقات وأنور عشقي وأنور السادات أذكياء. فهل هذا هو ما أثبتْه التاريخُ حقّاً؟ هل «المفاوضون» و«المحاورون» العرب هم الذين حقّقوا إنجازاتٍ لشعبهم ووطنهم؟ هل يدعو غانم إلى إحلال نموذج 17 أيّار 1983 «الذكيّ» مكانَ نموذج 25 أيّار 2000 «الغبيّ» الذي حقق طردَ العدوّ من لبنان من دون قيدٍ أو شرط؟
طبعًا سيسارع غانم، و«الأذكياءُ»، الى القول إنّ المدنيين الإسرائيليين غير العسكر الإسرائيليين. حسناً، ولكنْ أين يعيش هؤلاء «المدنيون» الإسرائيليون؟ ألا يعيشون في بيوتٍ كانت للفلسطينيين، وعلى أرضٍ كانت للفلسطينيين؟ أترانا نحتاج إلى أن نرمي برواية «عائد إلى حيفا» في وجه غانم كي يرى «المدنييْن» اليهودييْن وقد احتلّا بيتَ سعيد س. وصفيّة وهجّراهما منه؟ ألا يَخدم «المدنيون» عاميْن في جيش «الدفاع» الإسرائيلي؟
كان بإمكان غانم أن «يعوِّمَ» مهرجانات بعلبك، ورئيستَها السيّدة نايلة دو فريج، في وجه الاحتجاج الذي يقوم به شرفاءُ بعلبك الرافضون للتطبيع، من دون أن يهينَ أنصارَ المقاطعة والمقاومة. ولكنه لن يكون في هذه الحالة منسجماً مع دوره الأزليّ الأبديّ: ناطقًا باسم جزءٍ من الناس، هم المسمّون زوراً «أذكياءَ» و«واقعيين»!

رئيس تحرير مجلة «الآداب»، وعضوٌ مؤسِّسٌ في «حملة مقاطعة داعمي «إسرائيل» في لبنان»
الروابط والهوامش ذات الصلة على موقعنا