إن أدرك البيروتيون أم لا، فالذي يربطهم بمدينتهم هو بشكل أساسيّ مجموعة من المساحات العامة والفضاءات المشتركة المخطط لها أم تلك التي تتواجد بالصدفة. ما يجعلهم بيروتيين مثلاً هو تلك العلاقة مع نسخة من بيروت أكبر بكثير منّهم، ومؤلفة من: لغة، حيّ، مبنى، أو جوّ اجتماعيّ، وليس الأشياء التي يملكونها بصفة شخصية ومباشرة.
هكذا تشكّل المساحات العامة والمشتركة نسيجاً لهويّة اجتماعيّة يحيك كلّ منا قصصه الخاصة وشخصياته عليها. والمثير للاهتمام في بيروت الحاضر أنّ المباني المهجورة التي تشكّل جزءاً أساسياً من هويّتها هي عمليّاً ملك خاص، وفي معظم الأحيان لملاكين أجانب.
أيقونات ضخمة لتاريخ لبنان، ليست سوى سلع عقاريّة في انتظار تسييلها. كما لو أنك تعلن أن الأرزة على علم لبنان موجودة فعلياً في حديقة منزل أحد ما، وأن مصيرها عملياً منوط به شخصيّاً. فكرة مدّمرة. ليس لأهميّة الأرزة، ولكن لأن نقص سيادتها يخفّض من قيمة أساس نظُم معتقداتنا. لذلك، يجب أن نكون حذرين في كيفيّة التعامل مع المكونات التي تشكّل هويّتنا.
إن كانت قرارات السياسات اللبنانية تتبنى في معظم الأحيان سياسات التخصيص التي تزعم نمو القطاعات، فإن حالة الأبنية المهجورة في بيروت، وبصفتها مواقع ذات أهميّة وطنيّة، تملي علينا حاجة ملحّة إلى تأميمها. وبما أننا نعلم أن ذلك شبه مستحيل، فيجب البحث عن أساليب بديلة لاستعادة ملكيّات تلك المواقع، أنواع مختلفة من الملكيّات. كيف بإمكاننا أن نستوعب ونتصالح مع واقع أننا لا نملك الأيقونات التي نزعم أنّها تحكي روايتنا؟

مشروع يمنح صوتاً
لمباني بيروت المهجورة لتتكلم
عبر شاشة L.E.D.


فلنغيّر روايتنا. في الجزء الأكبر من تفكيرنا في الملكيّة ضمن هذه المدينة، كانت روايتنا رواية الضحية، رواية تسطّر نقص المساحات العامة وأثر ذلك على النفوس، وبالتالي كيف علينا أن نخلق مساحات عامة إضافيّة كيّ تتحسن تلك المدينة. علماً أنه ضمن القوانين التي تحكم بيروت، تبقى هذه المعادلة عقيمة. بدلاً من ذلك، لمَ لا نغيّر روايتنا من رواية الضحيّة إلى رواية «المعتدي»؟
ولكن في تلك الحالة من هو المعتدي؟ ومن هو المعتدى عليه؟ المعتدي عامل ناشط في المدينة يبني منهجيّته على خلق مساحة للإمكانيات، وفعله الاعتدائي فعل استرداد بدلاً من أن يكون فعلاً تخريبيّاً. والمعتدى عليه هو أيّ كان يشكل عقبة أمام تحقيق تجربة مَدينية مشتركة. في سيناريو كهذا، تصبح المعركة بين الخاص والعام ملموسة: ما هي الرواية الحاليّة، وما الذي يجب أن تكون عليه؟ «ألو، شايفني؟» انطلق كمشروع يمنح صوتاً لأحد مباني بيروت المهجورة لتتكلم عبر شاشة L.E.D. تتحول إلى فَم المبنى. بعد محاولات عديدة ومن مبنى إلى آخر، أدى الاصطدام باستحالة لمس ومشاركة أو استعمال أيّ من تلك الرموز المَدينيّة، إلى بروز معضلة أكثر إلحاحاً من تلك التي انطلق منها المشروع: واقع منعني من الاقتراب من أيّ من تلك المباني المسماة أيقونات، واستعمالها للاختبار في علاقتها مع المدينة، لتصبح بطريقة أو بأخرى جزءاً أساسياً من المشروع.
كان على الرواية أن تتغيّر. ماذا لو كانت جميع أبنية بيروت المهجورة تتكلّم وليس مبنى واحداً فقط؟ كيف يمكن من مواقعنا اليومية أن يتاح لنا مدخل إلى تلك المحادثات؟ «ألو، شايفني؟» يعتدي على ملكيّة كلّ من تلك الأبنيّة انطلاقاً من المساحة العامة الفضلى التي تحيط بها جميعاً: الشارع. يعتدي على القيود المطروحة من قبل القوانين والقواعد الاقتصادية، عبر إعادة طرح دور الشارع. يتحول الشارع من فضاء للتنقل إلى فضاء تفاعليّ يخترق الحدود المفروضة في الرواية الحالية ويسمح لمسار جديد، لكتابة رواية تعنينا.