القاهرة | في أعقاب الثورة المصرية في «25 يناير» 2011، سارعت الدراما المصرية إلى اغتنام مناخ الحرية النسبي المتحقق بعد خلع مبارك. تناولت أغلبية الأعمال الرمضانية بين عامي 2011 و2012 موضوعات الفساد والتعذيب ومحاولة سبر آليات السلطة السياسية وكشف كواليسها.
كان اللعب على تلك الأوتار مفهوماً لأكثر من سبب، فما كان محظوراً بالأمس صار مباحاً. سنوات الرقابة والخوف خلقت توقاً إلى التعبير بشجاعة وبلا مواربة. كما اتجه التيار السائد وقتها في الإعلام إلى لعن العهد البائد ورجاله وممارساته، فكان من المضمون والطبيعي مسايرة «الموجة» حتى من صناع وفنانين عرف عنهم انتماؤهم إلى «النظام القديم»، أو معارضتهم الضمنية للثورة عبر آرائهم وتصريحاتهم. انتشرت بوسترات تامر حسني (من مؤيدي مبارك) بالغترة الفلسطينية وهو يؤدي دور «آدم»، شاب يتم اضطهاده من قِبل ضابط كبير، يعذبه هو وأفراد أسرته، ويقتله في النهاية داخل مكتبه. جاءت أغلب الأعمال فجة في مباشرتها.
كانت شخصية الشرطي الفاسد ــ وقبل الثورة بسنوات ــ قد صارت حجر الزاوية في العديد من الأعمال السينمائية والتلفزيونية. شخصية نمطية وكلاسيكية مثل «مجذوب القرية» و«رجل الدين الأفاق».
كانت كثافة حضور شخصية الشرطي الفاسد موازية أو مكافئة لكثافة الأخبار عن انتهاكات الداخلية المستمرة لحقوق الإنسان، وضحايا التعذيب في أقسام الشرطة ومقرات أمن الدولة. شاهدنا مسلسلات مثلت فيها العلاقة بين السلطة السياسية ورأس المال الخلفية الرئيسة للحدث مثل «نيران صديقة»، «خاتم سليمان»، «الهروب»، «موجة حارة»، و«تحت الأرض»، وتطرقت أعمال أخرى بشكل فرعي إلى الأحداث الجارية وقتها، وجرائم التعذيب وتلاعب أجهزة الأمن.
لكن مرحلة «30 يونيو» وما بعدها، شكلت مرحلة مغايرة في المجال العام المصري. وسط الخطاب الشعبوي وتهم العمالة والتخوين وسحق الآراء المخالفة وأصحابها، صارت القنوات الخاصة والمنابر الإعلامية جميعها كجوقة واحدة، في تماهٍ تام مع خطاب الدولة. لذلك، جاءت المسلسلات الرمضانية في السنوات التالية كأنها محاولة لغسيل سمعة أجهزة «الدولة العميقة»، والأمنية منها بالذات. تقلص هامش الحرية إلى حدّ التلاشي، وتلاشت مساحة النقد هي الأخرى، فلجأ صناع الدراما إلى المسايرة من جديد، وإلا كان مصيرهم المنع أو النفي. هذا ما حدث مع مسلسل «أهل إسكندرية» (تأليف بلال فضل وإخراج خيري بشارة، وبطولة عمرو واكد وبسمة)، الممنوع من العرض بسبب موقف عدد كبير من صناعه من النظام الحالي. يومها، أشار السينارست بلال فضل إلى أنّ منع المسلسل وراءه «أسباب سياسية وأمنية ومن جهات سيادية بتهمة تشويه صورة الداخلية». هكذا، توجهت القنوات الفضائية إلى إنتاج مسلسلات تتوافق مع خطابها الإعلامي المسخر في خدمة بروباغندا الدولة.

بدا واضحاً أنّ نظام السيسي
لن يسمح بما كان مباحاً
من قبل، فهو يرى حرية
التعبير قرينةً للفوضى



في دلالة على هذا، لجأ صناع مسلسل «بعد البداية» (2015 ـ تأليف عمرو سمير عاطف، وإخراج أحمد خالد موسى، بطولة طارق لطفي) إلى تقديم تنويه أو بيان قبل بداية الحلقة الأخيرة، يؤكدون فيه «دعمهم الكامل لمؤسسات الدولة بعد 30 يونيو في محاربة الفساد في كافة قطاعاتها»، في محاولة لإحداث التوازن ودرء الاتهامات الجاهزة نظراً إلى جرأة المسلسل في تناوله لجرائم الفساد وتورط كبار رجال الدولة فيها.
بدا واضحاً أنّ نظام السيسي لن يسمح بما كان مباحاً من قبل، فهو يرى حرية التعبير قرينةً للفوضى. مع هذا القمع، يتضافر سيل من الأغاني والحملات الإعلانية هدفها تلميع وجه الدولة، وتتركز فحوى أغلبها على تضحيات الجيش والشرطة، وعلى تكاسل المواطن وجهله وفشله، وتجعله العامل الأوحد وراء الفقر والجهل والمرض وكل إخفاقات الدولة على مدار عقود.
يرى بعضهم أنّ الأعمال الفنية المكرسة لخدمة بروباغندا الدولة، تُصنع بالإملاء المباشر من الجهات السيادية إلى «الأذرع» الإعلامية لها. لكن من الممكن أن يكون الأمر أكثر بساطة. قد يكون العمل تعبيراً عن رؤية صانعيه بالفعل من دون إملاءات فوقية، وقد يرون أنفسهم معبرين عن «واقع» ما، أو ناقلين بحيادية من دون انحياز أو دفاع عن الداخلية مثلاً. شاهدنا مسلسلات مثل «تفاحة آدم» و«الخروج» و«القيصر»، و«7 أرواح» و«شهادة ميلاد». اختلفت فيها ملامح الضابط القديم لتصير أكثر شهامة ونزاهة وإنسانية، فهو الباحث عن العدالة وصاحب التضحيات اليومية والمستمرة. هذا التغير الحاد في سلوك الضباط على الشاشة لم تصاحبه تغيرات حقيقية في الشارع المصري.
يأتي مسلسل «كلبش» (رمضان 2017) في قائمة أكثر المسلسلات الرمضانية مشاهدة. حقق العمل الذي قام بتأليفه باهر دويدار وأخرجه بيتر ميمي، نجاحاً جماهيرياً كاد أن يقارب جماهيرية مسلسل «الأسطورة» في العام الماضي (تأليف محمد عبد المعطي، إخراج محمد سامي، وبطولة محمد رمضان).
لكن ما هي الأسباب وراء نجاح أي عمل درامي جماهيرياً؟ أو بالأدق، اجتماع الطبقات الشعبية أو المشاهد «العادي» حول عمل بعينه، بعيداً عن التفضيلات النقدية أو النخبوية، إن جاز التعبير؟
ثمة نظرة غالبة إلى العمل الدرامي (والرمضاني تحديداً) مفادها أنّ الشرط «الجمالي» ترف لا ينبغي تحقيقه. لذلك، يعمد أغلب صناع الدراما إلى «وصفة» مضمونة النجاح: حكاية بسيطة في إطار سرد خطي، بلا تنقلات زمنية، الالتزام بالأنساق الأخلاقية المحافظة، والأهم الكوميديا، لا بالمعنى الفني وإنما حشر مجموعة من النكات والإفيهات.
لكن «كلبش» استطاع أن يقدم، وبذكاء، عناصر هامة وأولية في الدراما. تأتي في مقدمتها الثيمة وشخصية البطل. المسلسل يقوم على تجاور ثيمات عدة: الهارب الباحث عن الحقيقة وإثبات البراءة، المؤامرة المحبوكة، شخصيات مساندة مضحكة وكاركاتورية تحيط بالبطل. يقدم المسلسل شخصية رئيسية (protagonist) كاريزمية. الكاريزما تأتي قبل أبعاد الشخصية أو عمقها أو تعقيدها.
ثمة تشابهات عديدة بين شخصية «سليم الأنصاري» التي جسدها أمير كرارة في «كلبش»، وشخصية «رفاعي الدسوقي» التي قدمها محمد رمضان في «الأسطورة». رغم أن الأول ضابط مباحث والثاني تاجر سلاح من حارة شعبية، إلا أن كليهما رجل يأخذ حقه بلسانه ويده. ويمثل شارب كرارة الضخم الثيمة الشكلية (لوك) التي حلت محل لحية رفاعي هذا العام.
ظهر سليم الأنصاري كرجل القوات الخاصة الذي يحارب الإرهاب ويحمي الأطفال والنساء، ثم عمل في المباحث وطارد بنفسه المجرمين وتجار المخدرات، وسحل واحداً منهم في الشارع بعدما فشل كل من قبله في الإمساك به.
تكمن إشكالية البروباغندا وعلاقتها بالفن في نقطة أساسية وهي «الانحياز». بينما يسعى العمل الفني إلى التعمية على إيديولوجيته، أو تصعيدها وإضفاء أبعاد متباينة لها من خلال تفاصيل العمل، تفرض البروباغندا انحيازها وخطابها على المتلقي قسراً، ولا تترك له المجال كي يفكر في تكوين مواقفه وتحيزاته.
اختار «كلبش» أن يكون ذكياً في خطابه من خلال التوزيع العادل للشيطنة، ولم يقصرها على قطاعات أو فئات بعينها. هناك نائب المجلس الفاسد ورجل الأعمال الفاسد، والشرطي الفاسد ممثلاً في أمين الشرطة زناتي (أدى دوره ببراعة الممثل والمطرب دياب). ونشطاء «السوشال ميديا» يعانون من غياب «الصورة الكاملة» كباقي أفراد الشعب. هم شباب مخلصون، لكنهم سذج يتم استغلالهم وتوجيههم من قِبل العملاء والفاسدين.
يقول السينارست باهر دويدار في أحد لقاءاته إنّ مسلسل «كلبش» يهدف إلى كسر حالة «الاستقطاب» حول شخصية الضابط ، ويضيف: «هدفي الأساسي من المسلسل، تقليص الفجوة بين مهاجمي ومشجعي شخصية الضابط، لأنّ حالة الاستقطاب العنيفة الموجودة في المجتمع غير صحية» (جريدة «الوطن»). وهو ما يظهر جلياً في المسلسل حيث يختبئ الأنصاري ومعه رفيق الكلبش التمرجي إبراهيم السني (محمد لطفي في أداء مميز) بين البسطاء، يساعدهم ويساعدونه. وهذه الطبيعة الرسالية للعمل ليست خبيثة أو سلطوية بقدر ما هي معاكسة للواقع اليومي. نجح المسلسل في اختلاق الحدث الذي يجبر الضابط المظلوم على الاحتماء بالشعب، ليقلص الفجوة بينه وبينهم ويصيروا أخوة. لكن المسلسل في الوقت نفسه يزيد الفجوة بينه وبين ما يحدث يومياً في مفارقة حادة وساخرة. ربما هذا التآخي هو ما يوده العمل، وهو في ظل الظروف الراهنة، ضربٌ من المستحيل.