«رسمتُ المَشاهد، وفي الألوانِ رسمتُ الإيقاعَ الموسيقيَّ لتلك الخفقات. رسمتُ الألوان التي رأيتها» يقول إدوارد مونخ. على تلك الخطى من ذلك النبض الموسيقي، تسري اليوم «مرافعات الضوء»... معرض أسامة بعلبكي (1978) في «غاليري أجيال».
عشرات اللوحات الأكريليكية، ثلاث مائيات، ولوحة خاصة بالشاعر السوفياتي ماياكوفسكي، ألبست «أجيال» حلّة جديدة لمشهديةٍ بصرية كاملة الألوان، فتنوعت نغمات مرافعات الضوء. هنا يصفِّر (صوتاً/ لوناً) قطار العمل التشكيلي، معلناً الانطلاق من محطة الألوان الفان غوغية، يمرُّ عبر سكّة الزرقة - وِلبعلبكي فلسفةٌ خاصة فيها- ثم يعرّجُ قليلاً على المشهدية المونخية التعبيرية، ويستريح عند المنظور الرومانسي لكاسبار دافيد فريدريش. لكن بعلبكي يأخذ من كل محطة زاداً بصرياً، ويكمل رحلته الحدسية الإنقاذية. اللوحة وجهتها محطة واحدة وانتماء واضح هنا: بيروت، محط الرحال. بل تفاصيل الضوء المنبعث في بيروت، بل تفاصيل الضوء المنبعث من ثنايا الهوامش اللحظوية هنا والآن.
نادراً ما يجتمع تشكيلي أكاديمي ممتاز في شخص فنان حدسي شفاف، فالتناقض لا بد من أن يؤدي إلى غلبة أحد الطرفين، إلا عند أسامة بعلبكي.
هنا الأعمال متقنة، والحدس يختصر الطريق من قلب الفنان إلى الرائي. والتقنية العالية لم تطغَ على شفافية الحدْس، بل خُلِقَ توازنٌ شكَّل الدعامة لبناء الأعمال الأكثر تماسكاً، والأصفى هويةً: لوحات.
«أعتبر فعل الرسم عملاً نبيلاً وحدسياً. أتعرف إلى سطح اللوحة مع كل الطبقات التي تتراكم عليه. أتعاطى معه بطريقة حدسية! الحدس له علاقة هامة جداً بالرسم والتلوين. هو هذا النوع من الخيال الذي يتحول إلى عجينة ثم إلى عمل. ثم كأنه عمل أثري! طبقات يدفن فيها المعنى! يدفن فيها الحِس! لذا لا أفرِّقُ بين جسد اللوحة ومضمونها. هما مسألة واحدة ونتاج هذا التخيُّل الحدسي. في الرسم، أعتبر نفسي حراً، لأنني أتعرف على الرسم بطريقة أولية وبطريقة ليس فيها وعي. لكن فيها هدفٌ تضمره العين والإحساس. هكذا أفهم الرسم ولو كان واقعياً لأن الواقعية بحاجة إلى خطة وممارسة منتظمة، لكنني أمارس الواقعية بطريقة حدسية!». بهذه العبارات الشفافة، يبدأ أسامة بعلبكي حواره مع «الأخبار»، ويضيف معبّراً عن مفهومه للفعل الرسم وكيفية عمله الذاتية: «لوحاتي فيها ما هو ناتج عن عملية تخيل حدسية لصيقة بالمشاهدات اليومية وبعيدة عن التعالي المثالي، أي ليس فيها انفصال. هي طالعة من جسد التجربة المرئية الفردية. عملي بهذا المعنى داخلي. لقد صنعته بهمة الاشتغال الداخلي كأنه نسجٌ يُصنع للذات. لكن نتاج هذا النسج الداخلي، يعود ليتحول إلى أعمال. أعتقد أنّ الآخرين يشعرون بهذا النسج، أو هذا الحبك. لكن عندما أكون في طور الرسم، أرسم بكثير من الإحساس. أقوم بنشاط إحيائي، بالمعنى الروحي. أرسم كنشاطٍ شفائي إحيائي! وفيما بعد، يتحول العمل إلى عمل فني، للرؤية/ العرض».

من المونوكرومية إلى الألوان

«في بعض الأحيان، يخيَّل إليّ أن الليل أغنى ألواناً من النهار» يقول فينسنت فان غوغ.
هكذا، عيون التشكيلين ترى في كل شيء ألواناً. فالأسوَد أسودات والأبيض أبيضات، وكذا كل الألوان. لكن أسامة بعلبكي الذي اعتاد رواد المشهد الفني أن يتذوقوا معارضه المونوكرومية، فوجئوا بافتتاح أول معرض له ملوّن بالكامل. كيف انتقل بعلبكي من الأحادية اللونية إلى «مرافعات الضوء»؟ يجيبنا: «عندما كنت أرسم باللون الرمادي أو الرمادي المونوكروميّ، كنت أعتقد كل الوقت أنّني ألوِّن لأن التلوين بالنسبة إليّ دائماً هو درجة، أو قيمة تدرُّج. أستعير هنا كلمة من كولن ولسون عن ضوء/ لون فان غوغ يصفه بأنه «الغسق الكبريتي»! هذا الغسق الكبريتي فيه شيء جوهريّ يوحي باللون، بشكل خاص الأحمر والبرتقالي، بينما كانت الأعمال الرمادية التي أرسم فيها نفسي، مشدودةً أكثر للفكرة ولا تتطلّب ألواناً. كان هناك أداء أكثر أعمل فيه على حالي ومحيطي، مما يوحي أكثر بعمل فكريّ. إنما هذه الأعمال الأخيرة هي أشبه بنداءات صاعدة من مكان مجهول، يلبيها الرسّام تلبية عمليّة. هي تلبية لصُدَفٍ أيضاً - كي لا ننزع عن الرسم طابعه العرضيّ- ففي الرسم والفن عموماً مثل الحياة، هناك شيء عرضي ومجاني. هذه المجانية أحب أن أحافظ على جزء كبير منها في إنتاج العمل لأنّها أيضاً مشاركة في صناعة الوجود والزمن».
هي نداءات بديهية من قلب الطبيعة كان لا بد للفنان من أن يلبيها ملوّناً. لكنَّ سراً لونياً يجمع كل لوحاته. هو ذاك الأزرق الذي لا يغيب عن أي لوحة إطلاقاً. ينتبه بعلبكي لدى سؤالنا عنه. يبتسم وتكر سبحة التفسير الترنيميّ: «طبعاً الأزرق موجود بكثرة في لوحاتي. ألوِّن بالأزرق لأن فيه شيئاً يخفق في خلايا المشهد. يوحي بعمق المشهد ورهافة العين. الأزرق يورِّطكِ أكثر في المشهد المرسوم. الأزرق فيه شيء حسّي. بالمعنى العميق، كأنّه يشكل جسد المشهد، المادة الغالبة في المشهد. لست أدري، هو يخرج مني بطريقة غامضة وبشكل فطري! هذا الأزرق هو أزرق الماء. هو ماء العالم، الماء المتدفق في أثير العالم. هذا الأزرق الطفوليّ. أزرق التذكُّر. أزرق المتوسطي الذي تنتجه بلادنا. والأزرق فيه بخار وفيه عبقة الشم. عبقة الأزرق الإغريقي. بمعنى أنّه يوحي بوجود العالم ولا يغيِّبه. هو أزرق صاحٍ، وهو ماء المشهد البصري. هو تلك الماء الجوفية السارية في خلايا العالم. في جسد العالم!».
لكن «ليس هناك أزرق من دون أصفر وبرتقالي» بحسب رسائل فان غوغ لأخيه تيو. وأسامة بعلبكي فهم هذه المعادلة فطرياً، فتوزّعت الألوان على المساحات شذراتٍ من الضوء الأصفر القريب من الأبيض، الملامس للأزرق هنا أو المائل إلى الزهريّ هناك. لمسة اخضرار تراقصها لمسة بنفسجية. وكحليّ أقرب إلى البروسيٌّ يربط بُنية اللوحة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. هو المشهد الاستعراضيّ الضوئي الذي يحيكه الغسق فوق المدينة وأبنيتها، أو ذلك المشهد المنسيّ في زوايا الريف، أو حتى على قارعة طريقٍ مدينية.

فالس السينوغرافيا

«أعمال أسامة السابقة كان اتجاهها واضحاً دائماً، بشكل خاص البورتريهات. لكن هذه المرة هناك لعب خرافي جداً على الضوء. ودائماً بالروحية ذاتها. هنا منظر طبيعي كلاسيكي، لكن في الوقت عينه لا يمكن أن يكون من القرن التاسع عشر. هو لا ينتمي إلا إلى هذا العصر، هو ابن الآن. وفي الوقت الذي يذكرك باللحظة والهُنا، يحاول أخذك إلى صمت في مكان آخر. شِعريٌّ جداً العمل! أنا أحب هذا المعرض كثيراً!» يقول صالح بركات في حديث خاص إلى «الأخبار».
يمر بركات بخطواته الخفيفة الرشيقة على وقع الإيقاع الموسيقى لخفقات اللون. يؤكد دقّة حضور اللوحات في حيّز معين من الصالة. ما يهمه في السينوغرافيا وكيفية عرض الأعمال، هو الانتقال السلس من لوحة إلى أخرى. تماماً كرقصة فالس، يقود بركات حركتها وحركة الرائي، بكل ما فيها من شد وجذب وتناغم. يتجه إلى اليمين ليريك اللوحات هناك، ثم يقودك إلى اليسار مشيراً إلى ماياكوفسكي. لا خيار للرائي إلا الانسجام مع تلك الخطوات في حقل اللوحات. يتحول منطق السينوغرافيا إلى كوريغرافيا. وهنا لا شيء يعكِّر صفوَ المعرض، فلا يريد بركات للرائي أي إزعاج أو تشويش. صاحب الغاليري يشرف بنفسه على أدق التفاصيل: «إذا نظرتِ هنا بين هذه القطعة وتلك، ترَين جواً قرويّاً ريفياً ثم صورة أسامة، ثم مروراً سلساً تدريجياً إلى المنظر المديني. وإذا لاحظتِ في الطابق العلوي، هناك الليل والضوء الغسقيّ أو المغيب. أعتقد أن سينوغرافيا المعرض جميلة جداً تعطي صورة جديدة لـ «أجيال». الطريقة التي عرضنا فيها الآن، فيها فراغات تسمح للمعرض بأن يكون مريحاً وسلساً وفي الوقت عينه حميماً!».
ويضيف بركات: «لست أدري. في هذا الزمن، ما زلت أعتقد أن اللوحة هي حلّ في عالم الفن. ما زالت قادرة أن تنتج حلاً». هي حلٌ مدهشٌ لا شك، تتيح للرائي متعة بصرية نغميةً. لكن من أين تصدر الموسيقى؟

عازف اللون

«وفي اللوحة أريد أن أقول شيئاً مطمئناً كالموسيقى!» يقول فان غوغ.
خلال التجوال في أرجاء المعرض، يقول لنا بعلبكي: «منذ أن كنت صغيراً، كان الرسم - هذه الممارسة العصبية- كالمشي بالنسبة إليّ. حركة من الاحتكاك الذي يقطع الزمن ويؤقلمه. ليس عصبياً فحسب، بل روحيّاً أيضاً. يعني أن ترافق نفسك، كالمشي تماماً، وفيه نغمة. والرسم نغمة. التلوين والخدوش والحفر على سطح اللوحة، ثم تنسيق العين مع اليد فيه شيء معنوي ليس فقط تقنياً، كأن هناك تضافراً بين العوامل القلبية والعوامل الدماغية. هذا الخط الذي يخرج ثم يعود! هذا التيار الذي يخرج منك ويعود ليرتد عليكِ. الرسم عملية من هذا النوع. يعني هناك هذه المرونة، هذا العزف. الرسم عزف. عزف تأملي تخيُّليّ! أفهم اللوحة على أنّها كيان دائم التشكل. لوحاتي مشاهد واقعية لكنها توحي بالحركة الدائمة أو بسلسلة من المشاهد الخالية من الانقطاعات. لأنّه كما قلنا آنفاً، هناك هذا العزف».
سنة كاملة من العزف اللوني، كان فيها أسامة يرسم، يقرأ، يمشي، ويتحدى نفسه أيضاً. في المعرض، لوحات مائية. يُسِرُّ بعلبكي أنّه كان يتهيّب هذه المادة باعتبارها مراوغة وصعبة، بل الأكثر صعوبة. لكن بحثه عن الحالة الشفافة والتخفيف من عبء المادة الزيتية الثقيلة، دفعاه إلى خوض التجربة، فكانت ثلاث لوحات مائية في هذا المعرض.

الرسم لإنقاذ العالم

يفتش بعلبكي عن مشاهد لوحاته بطريقة فطرية، هي نتيجة ملاحظته للعالم، للتفاصيل. «نعم هناك تفتيش عن الكائنات التي ما زالت باقية على قيد الحياة! ألاحظ الأشياء المهملة المخفية الساحرة، لكنها في الواقع توحي بشحوب أو بعادية معينة. هذا المشهد العادي الذي لا يوحي إلا بفقر، يأتي الرسم ليرفعه إلى مرتبة العمل ذي السحر والرمزية. على أساس أنّ هذه هي الطريقة الفضلى لإنقاذ العالم. هو إنقاذ خيالي للعالم. هذا العالم الشاحب المتداعي العادي الذي يظهر أنه رتيب وغير محرَّك. يأتي الرسم ليحرّكه. في هذا المعرض، ركزت على هذا المناخ الساحر الذي يوجد في المدينة، خصوصاً في تلك الإضاءة عند الغسق أو عند الفجر. لذا أسمينا المعرض «مرافعات الضوء». عندما يصبح الضوء في حالة جهورية، كأنّه يؤدي أداءً صادحاً... ويتحول إلى ملحمة الإضاءات!
مشهدية تغمر الرائي لدى وصوله إلى «غاليري أجيال»، كمن فتح باباً للدخول إلى زمن يوحي بأنه آخر.. لكنه الآن. مجموعة لوحات أكريليكية تراوح قياساتها بين المتر والمتر ونصف وصولاً إلى المترين عرضاً. تغرقنا في ذلك الإحساس الصاعد من لوحات كاسبار دافيد فريدريش إلى أعماقنا الرومنطيقية. نقف هناك على مشارف جبل، مدينة، بحر، سهل. نتَّحد مع تفاصيل في الطبيعة. يتسرب الضوء الخفيف من حلقة واضحة في بحر اللوحة ليدهشنا. لكن بعلبكي قريب من روح الرومنطيقية، بعيد عن تقنيتها الهادئة. هو أقرب إلى مزاج فان غوغ اللوني، ووثبات ريشته الراقصة الزاهية، أو أقرب إلى ذلك التشكيل عند ادوارد مونخ الذي يضعنا على مسافة من المكان وفيه في آن.

هو أقرب إلى مزاج فان غوغ اللوني، ووثبات ريشته الراقصة الزاهية

يقول الفنان حسان زهرالدين (1969) في شهادة وتأويل شخصي لأعمال بعلبكي: «لأنه يعمل على موضوع أكثر رومنطيقيةً، أقصد هنا كمدرسة فنية، ليس بالضرورة بشكلها البصري وإنما بمعناها الأدبي، أرى أسامة كأنه يحاول أن يقف في مكان ما ويعيد النظر إلى الحياة إلى الطبيعة، إلى البيئة، إلى كل هذه العناوين. كأنه يدعونا إلى الوقوف معه والنظر إلى الأثر الحاصل. والأمثلة كثيرة: ربما ما ذكرته آنفاً أي كاسبار دافيد فريدريش، فقد كان يدير ظهره للأثر الناتج عن الثورة الصناعية، هارباً منها، ناظراً إلى الطبيعة. وكذلك إدوارد مونخ الذي كان يعبر عن الأثر النفسي لتلك للثورة الصناعية على البشر، أو حتى فان غوغ الذي وقع عليه الأثر، لأن التروما التي كان يعيشها مع البشر أيضاً مشابهة للأثر النفسي الذي نراه معالجاً في لوحات مونخ. لكنني أحب أن أضيف تأويلاً شخصياً هو أنّ هناك ما هو جميل جداً في أعمال أسامة، ما يشبه الشعر الجاهلي، أي الوقوف على الطل/ الأطلال. أي أن الدمار حصل، دمار شامل.. وهنا تتبادر إلى الذهن مباشرة مقولة ألبرتو مورافيا بأنّ «الحضارة هي أول فعل عنفي ضد الطبيعة» أو ضد الحياة، مع أنّ الحضارة هي لصناعة الحياة أو تمجيد الحياة بشكل من الأشكال».
هذه الثنائية الجدلية بين الطبيعة والحضَر، بين العناصر الطاغية في الحضور وبين العناصر الهامشية، بين الضوء والعتمة... كلها حاضرة هنا. ينقذ منها بعلبكي الأضعف أملاً في الحياة. «منذ طفولتي، أفكّر دائماً في النواحي النائية والبعيدة عن الاهتمام، لا ما تقع عليه العين الجماعية. أفضّل إنقاذ العناصر الضعيفة في الطبيعة ووضعها في قالب أسطوري. وهذا منحى من مناحي مساعدة العالم على أن يبقى يوحي بالأمل. مثلاً هنا لوحة الفزاعة ذات الوظيفة في عالم الزراعة، تحولت إلى كائن مسرحي، إلى بطل تراجيدي، يمارس دوراً في الاحتجاج على العالم، أو عندما أتلاعب بصورتي في المشهد. هناك نوع من المخاتلة، استغل العدسة الحديثة كالتلفون لبناء عمل فيه شيء ينتمي إلى المدرسة الرومنطيقية، بأن أشير إلى الطبيعة وعلاقتها مع الكيان الفرديّ. هنا مثلاً زهرة المدينة التي تنمو على جانب الأرصفة. مدعوسة ومهملة وعرضة للقذارات. هذه النبتة التي تنمو مكافحة عناصر التدمير، أنا أراها لأنّها موجودة في حيز فيه مفارقة، أراها بطلة أكثر» على حد تعبير بعلبكي.
مشاهد من مدينتنا نمرُّ بها كل يوم، بعضنا ينتبه لها، وبعضنا الآخر يمر بها على عجل من دون أن يدرك وجودها، أيقَنتها ريشة بعلبكي في لوحات معاصرة، وأهدانا إياها... لنتفكّر؟ لننتمي؟ يقول صالح بركات في هذا الإطار: «أسامة من أهم الرسامين في بيروت الذين يدافعون عن مدرسة أعتقد هي بنت هذه المدينة. تعبّر عن أحساسيس إنسان يعيش في هذه المدينة، ويتوجه لناسها. أعمال أسامة ذات خاصية يمكن أن تكون عالمية. لكن أيضاً أشعر أنه يجسد مدرسة أو تياراً في قلب الفن في بيروت. هو جزء من مجموعة فنانين يعطون للرسم في بيروت خصوصية انتمائية ما. تعلمين مثلاً هناك مدرسة دوسلدورف في التصوير الفوتوغرافي، وفي باريس هناك الـ «إيكول دو باري». أشعر أن أسامة ومجموعة من زملائه استطاعوا أن يؤسسوا لرسم أو فن تشكيلي يشبه بيروت، أي لا يمكن أن يراه أحد في أي مكان آخر، كأنه نابع من أصالة هذه المنطقة. فنان مثل أسامة بعلبكي يمكن أن يقرأ لشعراء لبنانيين وعرب، ويقرأ أيضاً لماياكوفسكي ورونيه شار. لكنه يقرأهم باللغة العربية. يعني يقرأهم من منظور ابن هذه الثقافة. هو ذهب إلى «التايت» وإلى الكثير من الأماكن، لكنه في الوقت عينه يعرف مصطفى فروخ وصليبا دويهي وجورج صباغ، هذه الخلطة الحُلوة التي تنهض بالشخص، بتجربته، بإمكانياته الذاتية وبخصوصية هويته!». يختم بركات: «كان لديّ دائماً الإحساس بأن أسامة نجح في تكوين لوحة معاصرة ولكن من دون أن يقدّم أي تنازلات في خصوصيته! هناك جزء منه يقول بأن لدينا إرثاً ثقافياً يمكن أن ننهل منه، وفي مكان آخر أيضاً يمكن أن ننهل من التجربة الانطباعية والتعبيرية. هذا عالمنا المتعدد، وأسامة ينهل من كل المصادر. لكن هناك دائماً شيء ما يعيده إلى ثقافة معينة. لا أشعر أنه بإمكاني أن أرى هذا العمل مثلاً في طوكيو».

* «مرافعات الضوء» لأسامة بعلبكي: حتى 5 آب (أغسطس) ـــ «غاليري أجيال» (الحمرا) ـ للاستعلام: 01/345213




تحية لماياكوفسكي

«اصغِ، إذا كانتِ النجومُ قد أوقدت،
فهيَ إذن ضروريةٌ لأحدٍ ما،
ويعني أنَّ أحداً ما بأمسِّ الحاجةِ إليها،
فلتشع فوقَ السقوفِ في كلِّ ليلةٍ ولو نجمةٌ واحدة!».
(ماياكوفسكي)


بعد التحية إلى رينيه شار في معرضٍ سابق له، ثم تحية إلى بودلير، ها هو أسامة بعلبكي يوجه اليوم تحية إلى الشاعر السوفياتي ماياكوفسكي (1893 ــ 1930) عبر لوحة استثنائية، متينة البناء، رمادية التدرّج، تصوِّر اللحظة الأكثر إشكالية في تاريخ الشاعر الملتزم وهي لحظة «انتحاره» أو «قتله». فالجدل الذي هز الاتحاد السوفياتي من أقصاه إلى أقصاه حول كيفية موت ماياكوفسكي، ما زال قائماً حتى اليوم، رغم رسالة الانتحار التي خطّها بيده ورغم تبجيل لينين وستالين له بالاسم! جنازة ماياكوفسكي كانت أكبر جنازة في تاريخ الاتحاد السوفياتي بعد جنازة لينين وستالين، وحضرها ما يقارب 150 ألف مودِّع. لكن ماذا يقول أسامة عن هذه اللوحة الاستثنائية؟
«أصبح لدي مثل تقليد أو ممارسة دائمة في كل معرض. هناك دائماً عمل يمثل الشعر وصورة الشاعر. في هذا المعرض كان ماياكوفسكي. يأتي العمل كأنه التحية أو بجانب آخر كأنه جملة اعتراضية لها علاقة بتبجيل الشعر. على أساس أنّ الشعر يمثل المخيلة التي يمكن أن تنقذ العالم مثلها مثل الرسم. فدائماً في معارضي هناك لوحة لها علاقة بالشعراء». وللمصادفة فشهر تموز (يوليو) هو شهر ذكرى ماياكوفسكي. وهنا لا بد من ذكر ما قاله لينين في خطاب له إلى عمال صناعة التعدين عام 1922: «قرأت البارحة، بطريق المصادفة، في الأزفستا، قصيدة لماياكوفسكي في موضوع سياسي. ولقد مضى زمن طويل لم أستشعر فيه مثل هذه اللذة من وجهة النظر السياسية والإدارية. هو في قصيدته يسخر بشدة من الاجتماعات ويلوم المسؤولين من الشيوعيين، لأنهم لا يكفون عن عقد الاجتماعات تلو الاجتماعات. أنا لا أعلم ما وزن ذلك في عامل الشعر. أما ما يتعلق بناحية السياسة، فأنا ضامن أنه صحيح تماماً». أو ما قاله ستالين: «إن ماياكوفسكي كان وسيبقى أفضل وأخصب، وينبغي أن يقال بالفرنسية: أكبر شاعر في عصرنا السوفياتي. وإن اللامبالاة التي تحف بذكراه وبعمله هو الجريمة بعينها».
ويبقى السؤال: ما الأصدق من أن يوجِّه فنان تشكيليٌّ تحيةُ لشاعر؟ كم كان الأثر كبيراً؟ هل من كلماتٍ أقرب إلى طبيعة أعمال أسامة بعلبكي من شِعر ماياكوفسكي؟
«أصغِ
أنهم ما داموا يشعلون النجوم،
فلأنها بغية الناس؟
ولأن الناس يريدون أن تكون؟
ولأنهم يقولون: هذه النفثات إنما هي لآلئ.
وقد يكون ذلك لأن الليل الحقيقي أسود ومرصع بالنجوم».