باريس | ينتمي الكوميدي الفرنسي ذو الأصل التونسي، ميشال بوجناح، إلى تقليد عريق في الحياة الثقافية الفرنسية، وهو الفن «العربي – اليهودي» الذي أسهمت في إرسائه أجيال عدة من الفنانين الذين نزحوا أو هُجّروا من دول المغرب المغربي، بعد جلاء الاستعمار.
أغلب هؤلاء ظلوا متمسكين بأصولهم المغاربية، وبقي نتاجهم الفني مشوباً بالحنين إلى «الفردوس العربي المفقود». وقد أسهم جيل الرواد من أقطاب هذا الفن العربي – اليهودي في إنقاذ صفحات مشرقة من التراث المغاربي الذي كان مهدّداً بالضياع والنسيان، وخاصة في مجال الغناء. فقد أسهمت أصوات رينات الوهرانية، وسليم (سيمون) هلالي، وليلي بونيش، وموريس الميدوني، في الحفاظ على التراث الغنائي الأندلسي، وبالأخص منه فن «المالوف»، الذي بات مهدداً بالاندثار بعد تهجير غ البية الجاليات اليهودية التي كانت تتوارثه أباً عن جد، في تونس ومناطق الشرق الجزائري. لم يكن الارتباط بالوطن الأم لدى هؤلاء الرواد، من الفنانين اليهود المغاربيين، مجرد حنين طوباوي إلى «الفردوس المفقود». رغم آلام الإقصاء والتهجير التي تعرضوا لها، على غرار الآلاف من أبناء الجاليات اليهودية المغاربية التي اضطرت للنزوح إلى فرنسا، إلا أنهم حافظوا على مواقف وطنية مشهودة. مواقف لم تقتصر فقط على معارضة السياسات الاستعمارية الفرنسية، ومقارعة العنصرية المسلطة على المهاجرين العرب والمسلمين في فرنسا، بل تُرجمت أيضاً من خلال مواقف أخلاقية ومبدئية معادية للصهيونية. هذا الموقف المعادي لسياسات العدوان الإسرائيلية، الذي صدحت به رينات الوهرانية وليلي بونيش، نجده أيضاً لدى العديد من الكتاب والمثقفين ذوي الأصول اليهودية المغاربية، من أمثال الروائي المغربي إدمون عمران المليح (1917-2010)، والشاعرة والمناضلة اليسارية الجزائرية مريام بان (1928-2001)، والمفكر السياسي دانييل بن سعيد (1946-2010)، ومؤسس مجلة «نوفيل أوبسيرفاتور»، الكاتب والصحافي الكبير جان دانييل (1920) وغيرهم.
في موازاة هؤلاء اليهود المغاربيين ذوي المواقف الوطنية المشهودة، نشأت «موضة تجارية» لاقت رواجاً كبيراً في فرنسا، منذ أواخر الستينيات. موضة لم تلبث أن تحولت الى ظاهرة ثقافية مكرسة يشكل أقطابها صنفاً مغايراً من الفنانين المتحدرين من الشتات اليهودي المغاربي. هؤلاء استمروا في مداعبة مخيلة جاليات «الأقدام السود» (المهجّرون من شمال أفريقيا بعد الاستقلال) التي خرجوا من معطفها، من خلال التغني بالحنين إلى أصولهم المغاربية. لكن الارتباط بـ «الفردوس العربي المفقود» بات هنا مجرد عاطفة طوباوية مجرّدة من أي ارتباط فعلي أو موقف وطني.

يعبّرون عن ارتباط عاطفي بانتمائهم المغاربي، لكنهم يجاهرون بتأييدهم للصهيونية

هذا الالتباس أفرز لدى هذا الصنف من فناني الشتات اليهودي المغاربي انفصاماً فكرياً عميقاً وازدواجية سياسية فاقعة. صحيح أنهم يعبّرون عن ارتباط عاطفي قوي بالدول المغاربية التي تعود إليها أصولهم، لكنهم يجاهرون في الوقت ذاته بتأييدهم للصهيونية ومناصرتهم لإسرائيل. وغالباً ما يتبنى هؤلاء مواقف أكثر مغالاة حتى من أقرانهم من الفنانين والمثقفين الإسرائيليين، وبالأخص في ما يتعلق بتأييد «يهودية الدولة الإسرائيلية».
أطروحة «يهودية الدولة» لا تحظى في الأوساط الثقافية الإسرائيلية سوى بتأييد عدد ضئيل جداً من غلاة مؤيدي الأحزاب الدينية. أما فنانو الشتات اليهودي المغاربي في فرنسا، فيعتبر أغلبهم أنه «من الطبيعي أن تكون إسرائيل موطناً للشعب اليهودي وحده». والمفارقة أن أغلب هؤلاء الفنانين يصنفون أنفسهم يساريين وتقدميين وعلمانيين في فرنسا، لكنهم يؤيدون أطروحات اليمين المتطرف الديني في إسرائيل! من أبرز أقطاب هذا التيار المسكون بازدواجية الحنين الى «الفردوس العربي المفقود» والتبشير - في الآن ذاته - بالأطروحات الصهيونية الأكثر تطرفاً، المغني اليهودي الجزائري أنريكو ماسياس، والكوميدي التونسي ميشال بوجناح.
بوجناح جدّد حبه لوطنه الأصل تونس، بعد الثورة، وشارك في العديد من الحملات المنادية بدعم الدولة الديموقراطية الناشئة في تونس، وأسهم بشكل فاعل في الترويج للسياحة التونسية، ساخراً من الفرنسيين الذين يحجمون عن زيارة موطن بورقيبة، خوفاً من الاٍرهاب، قائلاً إنّ «عدد ضحايا الإرهاب خلال العامين الماضيين في فرنسا يفوق عدد الضحايا في بلدي (تونس) منذ قيام الثورة».
لكن ابن حي «حلق الوادي»، الذي لم يرحّله أحد من تونس (هاجر والده الى فرنسا عام 1961)، ولم يُمنع يوماً من دخولها، يرى في إسرائيل «الموطن الطبيعي للشعب اليهودي». يصف معاداة الصهيونية بأنها «ضرب من الغباء السياسي»، معتبراً أن «من الممكن انتقاد الحكومة الإسرائيلية، فالكثير من الإسرائيليين أنفسهم يفعلون ذلك. لكن لا يجوز انتقاد الدولة الإسرائيلية، لأن فعل ذلك يعني المساهمة في إبادة الشعب اليهودي»!
هذا الانحياز الأعمى لإسرائيل لا يترك مجالاً للشك بأنّ بوجناح يعاني من متلازمة الانفصام والازدواجية. وفِي مواقفه وتصريحاته المجاهرة بميوله الصهيونية المغالية ما يبرّر الحملة التونسية المنادية بمنع مشاركته ليلة 19 تموز (يوليو) في «مهرجان قرطاج الـ 53». لكن هذه الحملة المطالبة بحظر بوجناح في تونس، من منطلق محاربة التطبيع، تتجاهل إشكاليات سياسية وأخلاقية وقانونية عدة: هل يمكن لتونس، التي تشكّل نموذجاً عربياً نادراً لـ «الدولة المدنية»، أن تمنع بوجناح من دخول أراضيها، من دون أن تُسقط عنه الجنسية التونسية؟ كيف يمكن تفسير ملاحقة بوجناح التونسي، بسبب صهيونيته، والبلاد تشرّع مهرجاناتها الصيفية لعدد لا يحصى من المغنين الصهاينة غير التونسيين، من لارا فابيان وإيلين سيغارا إلى أدامو وباتريك برويل؟
كيف نفسّر صمت من يطالبون بحظر بوجناح عن العديد من الشخصيات الفنية والسياسية التونسية، غير اليهودية، التي لم يحاسبها أحد على تصريحاتها التطبيعية أو المهادنة للصهيونية؟ لماذا لم يطالب أحد بمنع أو محاسبة فنانين من أمثال فريد بوغدير ورضا الباهي وناديا الفاني؟ لماذا لم يسائل معارضو التطبيع في تونس زعيم «حركة النهضة»، راشد الغنوشي، على الحوار الشهير الذي أدلى به للإذاعة العسكرية الإسرائيلية خلال منتدى دافوس، عام 2012؟ وماذا عن الإمام حسن شغلومي، وهو الآخر من رموز «الإسلام المعتدل» التونسي، وقد قام بزيارات عديدة إلى تل أبيب، وشارك في نشاطات ومبادرات كثيرة مؤيدة للصهيونية؟
ما لم تتم إثارة كل هذه القضايا والإشكاليات، سيبقى الجدل حول بوجناح مجرد «زوبعة في فنجان» ستنتهي، كالعادة، بإلغاء حفلته في قرطاج لـ «أسباب أمنية» أو بامتناعه طوعاً عن الذهاب إلى «وطنه» تونس، ليظهر في موقع الضحية المضطهدة من قبل المتطرفين و«المعادين للسامية».