لم يظهر «الشعب اليهودي» فجأة، ولم يظهر المصطلح هكذا فجأة. لقد اخترع هذا الشعب، كما اخترعت الأرض. في القسم الثاني من كتابه «اختراع الشعب اليهودي» («مدار» و«المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية» ــ ترجمة سعيد عياش وتدقيق أسعد زعبي، مراجعة وتقديم أنطوان شلحت)، يفكك ساند الدعائم التاريخية للاهوت اليهودي التقليدي. يحمل مطرقته ويبدأ بإزالة الجدران بقوة. ليس ممكناً من الناحية العالمية، أن يعود جميع اليهود في العالم إلى التائهين مع موسى، وهو يفسّر ذلك بأسانيد أركيولوجية، ولا يكتفي بتخيّل المستحيل. إسرائيل التي نعرفها اليوم، أو إسرائيل «الصهيونية»، ليست إسرائيل التوراتية. ساند ليس متحذلقاً، فالقارئ يعرف أنه في أبحاثه يدافع عن نفسه، ولا يدافع عن الحق الفلسطيني. لكنه يدافع عن التاريخ لكي يدافع عن نفسه وعن والده الشيوعي البولندي، لكي يتبرأ من أسطورة «الشعب اليهودي» و«أرض إسرائيل»، التي تنسب إليه لأنه ولد يهودياً. وكتابه الأخير في الثلاثية «هكذا لم أعد يهودياً» (الكتاب الأول هو «اختراع شعب إسرائيل») يسجّل موقفاً حاسماً ضد اللاييكية بأوجهها المتعددة، ومتحفظاً على أكثرها تطرفاً، أي الفرنسية، لأن المجتمع الفرنسي ظل ينظر في كثير من الأحيان إلى اليهود كيهود، أو إلى المسلمين كمسلمين. وهذا ليس إشارات اعتباطية، إنما يضعها في مصاف البحث والتدقيق. العِلمانية الفرنسية، أحياناً تهبط في السلم السوسيولوجي إلى أسفل درجاتها. تنحسر في أن لا تنظر إلى الكاثوليكيين كما لو أنهم كاثوليكيون، كنتيجة لرسو الصراع السابق بين الكنيسة والدولة، بينما تبقى الجماعات جماعات، ما يسهّل استمرار «أسطورتها».
والشعب اليهودي الذي نعرفه اليوم هو شعب مؤسطر، تنسب إليه القوة والثبات، على قاعدة وراثية غير صائبة علمياً وأركيولوجياً، من دون أن يعطّل ذلك ضرورات البحث في المعاناة التاريخية للشعوب اليهودية.
منهجياً، ينسف ساند كل ما قامت عليه إسرائيل، من إسقاطات لاهوتية لإخفاء طابعها الاستعماري على الأرض الفلسطينية. يسأل نفسه ويسألنا معه: «هل يوجد شعب يهودي حقاً؟ ذلك يتطلب مقومات عرقية وقومية كافية لكي يوجد شعب يهودي، من جميع اليهود المنتشرين في العالم. ثم يذهب للبحث عن هذه المقومات. ولا يجدها طبعاً. الأهم من ذلك كله، هو إسهامه الجدي في توضيح لغز «الأرض الموعودة». حتى من الناحية اللاهوتية، يكتشف أن هذه فكرة لم تكن واردة في التقاليد اليهودية. لقد تم اختراعها. أما في السابق، فحظيت «أورشليم» التاريخية باعتبار ومكانة هامة لليهود، وهو ما يصح في الديانتين الإبراهيميتين الثانيتين، أي الإسلام والمسيحية. هذه المكانة التاريخية، لم تستدع ـ من الناحية التاريخية ـ عامل الإقامة.

مساهمة جدية في توضيح لغز «الأرض الموعودة»
ولكن لمصلحة من الإقامة في تاريخ زائف؟ يجيب على هذا أيضاً. لم يطرد اليهود من القدس. معظم اليهود الموجودين اليوم في «إسرائيل»، يتحدرون من مقومات عرقية غير فلسطينية، وفي أكثر من مكان، يسير بخطى واثقة على حبال الزمان والمكان، ليكتشف ما يمكن اكتشافه: تاريخ اليهود. في الواقع، لم يؤرخ اليهود، خلال 18 قرناً، تأريخاً علمياً ودقيقاً. وذلك يعود لأسباب جغرافية وثقافية عدة. التاريخ اليهودي بدأ مقطوعاً من الزمن، وفي عهد الحركة الصهيونية تحديداً، وهو تأثر بلا شك بالاضطهاد الذي كان سائداً لليهود في الغرب. في إحالاته الوافرة إلى التاريخ الغربي، يفند الألماني هاينرخ فون ترايتشكهه وقلقه الديموغرافي من موجات هجرة يهود أوروبا الشرقية إلى ألمانيا، ويغوص في توجه كاثرينا مومزن التاريخي المناهض للجوهرانية في تطور الأمم، حين يراجع تاريخ اليهود في ألمانيا ويكتشف أنهم في نهايات القرن التاسع عشر كانوا أصحاب وزنٍ وبورجوازيين، وهو رأي شهد هزيمة ساحقة لاحقاً. وإلى هذا التفكيك العميق للحضور اليهودي الديموغرافي في أوروبا، ينتقل ساند بسلاسة إلى الهجرات «القسرية» لليهود من مصر، وصولاً إلى آخر هجراتهم في الزمن الكولونيالي.
لا يتطرق ساند إلى الاستيطان. ليس لأنه غير شرعي في طبيعته وحركته، بل لأن مسألة إسرائيل برمتها غير شرعية من الناحية التاريخية. الذاكرة الإسرائيلية المعاصرة مثقوبة، والتاريخ يقتضي توضيحات كثيرة. الدياسبورا ليست حدثاً يفضي بالضرورة إلى «أرض ميعاد». بعد المأساة البابلية، ذهب اليهود إلى بغداد. بعد سقوط الأندلس، وجدوا أنفسهم في دول حوض المتوسط. وبعد المجازر بيهود أوروبا الشرقية، اتجهوا إلى العالم الجديد، أميركا. أن يستيقظوا فجأة ليجدوا أن الاتجاه الذي أخطأوه هو فلسطين، أمر يبعث على الريبة، خاصةً أنه بلا أساس توراتي حتى. لطالما فضل اليهود الغرب على الشرق، وطوروا لغة تلاقحت فيلولوجياً مع لغات أوروبا الغربية. لقد تعاملوا مع بعضهم كجماعة: أشخاص ينتمون إلى ذات الديانة. وتعاملوا كجماعة، كما كانت تسود علاقات الجماعات بين بعضها البعض، حسب حسابات الزمنية. ولكن، حسب شلومو ساند، كان لا بد من أرض، ومن مشتركات، وكان لا بد من الاستفادة من عاملين: الاضطهاد الغربي لليهود، والاستعمار في عزه. وهكذا تأسست «إسرائيل»، من دون أن يكون لذلك أي خلفية تاريخية. أما السؤال اليوم، فهو قطعاً ليس عن كيفية الإفادة من أبحاث ساند سياسياً، فهذا ليس نافعاً. الأهمية تكمن في الإفادة من المنهج، ومن الفجوة التي يفتحها البروفسور الإسرائيلي، في تاريخ الأسطورة.