هناك صراعات داخل المؤسسة الثقافية الإسرائيلية وتشعباتها السياسية والفكرية، ولعل أبرز أوجهها، كما يقرأه أمل جمال، هو بين التيار الصهيوني المركزي الذي ينعكس في مواقف وأفكار «حزب العمل» الإسرائيلي وما يدور حوله، وبين تيار سياسي وفكري، يُطلق الباحث عليه لقب «الفكر الاستيطاني المتجدد». ذلك أنّ هذا التيار لا يلحظ أي فوارق بين الأراضي التي تقع تحت سيطرة «دولة إسرائيل» منذ 1948، وبين تلك التي احتلتها عقب حرب 1967. للوهلة الأولى، يبدو هذا دفاعاً عن صهيونية مقابل صهيونية بديلة. بعد التجول في مركبات هذا الفكر، يحدد الباحث نقطته المحورية: «التيار الجامع».
إنها أرض صلفة مشتركة يضع عليها الجميع أقدامه برخاء. لتفسير طبيعة هذا التيار، يقرأ جمال التقارب السياسي والاقتصادي بين «حزب العمل» الذي تنافس على قيادته شيمون بيريز واسحق رابين، و«حزب الليكود» الذي تزعمه اسحق شامير في معظم سنوات الثمانينيات. لقد سادت الصهيونية الاشتراكية بين خمسينيات القرن الماضي وسبعينياته، بينما بدأ التحول نحو الصهيونية الليبرالية منذ الثمانينيات. إنها العودة إلى الوضوح، العودة إلى زئيف جابوتنسكي. ذلك لا يلغي أن الاتجاهين الأساسيين «لا يختلفان في تصورهما لخلاص الأرض واستيطانها وفي آلية التنفيذ». ويمكن مراجعة كمّ الاستيطان الهائل في عهد اسحق رابين، قبل الشروع في حديث مغناج عن «عملية سلام».
الترجمة المنطقية لهذا التقارب، كانت في «حزب كاديما»، الذي أسسه أرييل شارون، كإعلان واضح عن الأرضية الصهيونية الصلبة بدون متفرعاتها المتشددة حيناً والزائغة حيناً آخر. «كاديما» هو فضيحة التماهي بين التوجه القومي المتشدد بخلفيته الليبرالية مع الجانب الأمني في «حزب العمل». هكذا يخلص جمال إلى تشكل «بلوك» أيديولوجي يكتسب صفةً تاريخية، ويتصدر واجهته اليمين القومي المحافظ، فيما تمحور الفكر «ما بعد صهيوني» من نقدٍ للصهيونية كـ «حركة تحرر وطني»، إلى مشروع كولونيالي قسري على حساب سكان البلد الأصليين. لكنّ هذا «البلوك» يقوم على أسس تستدعي بحثاً هادئاً، وتختلف قطعاً عن السائد عربياً من معاداة عمياء لليهود تعود غالباً إلى مصدرين ليس لهما أي شرعية تاريخية. المصدر الأول لاهوتي أو قرآني، وهو مبحث شائك. المصدر الثاني قومي، ويتلخص في النسخات العربية من القوميات التي نسخت عن القومية الألمانية على نحوٍ مبتذل، تحديداً تلك التي تختزل التاناخ والإرث اليهودي في التوراة، كما تدمج الصهيونية في التوارة، من دون أي فهم واضح للعناصر المؤسِسة للمنظومة الإسرائيلية الحالية، والعلاقة بين تلك العناصر.
يتفادى جمال كل ذلك، ويأخذ الاستيطان حيزاً واسعاً من دراسته. يستشهد بأحد قادة الاستيطان القومي الديني، باروخ مارزل، الذي لا يجد حرجاً من الاعتراف بأن «سحب الشرعية عن الاستيطان في الضفة الغربية، بناءً على الأحقية اليهودية بحسب الكتاب المقدّس، يسحب الشرعية عن كل ما قام به اليهود قبل قيام إسرائيل». هكذا يكون المستوطنون «طلائع» الشعب اليهودي، كما كانوا قبل 1948. وهذا يحيل مجدداً بسرعة فائقة إلى زئيف جابوتنسكي. لم يكن الأخير القيادي المركزي في الحركة الصهيونية خلال فترة الانتداب. كان على خلافٍ حاد مع دايفيد بن غوريون الذي يعدّ مؤسس الحركة الصهيونية وشخصيتها المركزية.

يظهر أثر اللاهوت
اليهودي التقليدي في روايات معاصرة كـ «من الكتاب المقدس مع الحب» لرام أرون
رغم ذلك، جابوتنسكي هو الذي نحت التوجه العملي للحركة. في كتابه «الاستراتيجية الأساسية»، قال جابوتنسكي منذ البداية إنّه لتحقيق «حق الشعب اليهودي في أرض فلسطين»، ثمة حاجة ماسة إلى القوة الذاتية، خاصةً على الصعيد العسكري. من أجل الوصول إلى الواقع، لا بد من سياسة «الجدار الحديدي». اليوم، تبدو بصمات جابوتنسكي ساطعة في الشق العملي من الصهيونية، تتجاوز أهميته الشق النظري. وفق جمال، «للاستيطان والبناء جذور أيديولوجية». ويتضح هذا في فلسفة جابوتنسكي الليبرالية. لقد استخدمت مؤسسات الدولة حافز «المجال الحيوي» إلى أقصى حد، لدفع التوسع الإقليمي تحديداً في «المناطق التي يسكنها العرب»، كما هي الحال في الجليل والنقب والضفة الغربية. وهكذا، يكون بن غوريون، ومن بعده، نفذوا «خارطة طريق» الخصم جابوتنسكي، كما تماهى حزب العمل والليكود في مواقفهما من الاستيطان، ومن البعد التوراتي.
هكذا تعيد الصهيونية إنتاج نفسها: مرجعية الكتاب المقدّس بالنسبة إلى بن غوريون لا تحتمل الشك. أبطاله وإحالاته القومية اتصلوا دائماً بسرديات توراتية. وإلى بن غوريون، يبحث جمال في دفاتر الصهيونيين، الذين يتحدثون لغةً علمانية، مثل حركة «إم ترتسو»، فيجد «البعد الإلهي» في تفسير العلاقة بين الشعب والأرض ناضجاً في تأويلات الصهيونية المتنوعة. لقد تلقى المفكرون الصهيونيون الأوائل تعليماً علمانياً، لكنهم لم يجدوا بديلاً من اعتماد المعتقدات الدينية كلياً لتبرير العلاقة بين الشعب اليهودي و«أرض الميعاد». جابوتنسكي هو أقل الصهيونيين مواربة وأكثرهم وضوحاً. لم يكن في الواجهة بسبب «الخصومة» مع بن غوريون، لكنه ترك أثراً عميقاً على السلوك الصهيوني عموماً: «الهدف النهائي والفعلي من الصهيونية، لن يظهر إلا في الدولة الثالثة، عند تشكيل ثقافة قومية تمنح الكون كله بعض تفوقها، مثلما هو مكتوب من صهيون تخرج الشريعة».

لا يطلق الباحث الفلسطيني هذا الموقف، لكن قارءه يشعر به: الاستياء من نظرة العرب التبسيطية إلى الصهيونية، والتعامل معها كما لو أنها ذلك «المجهول». صحيح أن تشعباتها تعود إلى أصل عدائي واحد، يتفتت بين «التحرر اليهودي» كما تقدّم الصهيونية نفسها، وبين «الاستيطان» كمشروع استعماري، لكن دراستها تقتضي التمييز بين ادعائها للعلمانية حين تدّعيها، وبين دعائمها التوراتية، ما يوجب التعامل معها بنقدية وعودة إلى المصادر العلمية. وذلك قد يوصل إلى خلاصة تقول إن صوت المثقفين اليهود في «إسرائيل» من «ذوي النزعة الأخلاقية» ما زال خافتاً، لكنها خلاصة علمية وغير أيديولوجية. صحيح أن ظاهر الصهيونية علماني، لكن أسانيدها دينية ــ عقائدية، تحوّل التاناخ إلى كتاب تاريخ. وفي أي حال، مصادر الشرعية للوجود الصهيوني في فلسطين التاريخية ليست سراً. لعل أبرز هذه المصادر هو العلاقة بين الديانة اليهودية والنصوص التوراتية، وبين هوية الشعب اليهودي وتاريخه وشرعية وجوده في أرض فلسطين. الوعد الإلهي ليس مجرد أسطورة، أو قصة «قبل النوم». إنه مرتكز أساسي من مرتكزات الصهيونية، حتى في التيارات العلمانية. ولمن يجد صعوبة في تقبل هذه الحقائق، عليه مراجعة كتابات بنيامين نتنياهو وموشيه أرنس ويوعاز هندل. في موضوع «الوعد الإلهي»، اللاهوتي في طابعهِ وواقعه، لا فارق بين هؤلاء الثلاثة وبين خطاب المفكرين الدينيين، مثل يسرائيل هاريئيل. ثمة أولوية لاهوتية تصبغ الرابطة التاريخية بين الشعب اليهودي وأرض إسرائيل، وهي على صلة عميقة بالدور الخلاصي لشعب إسرائيل في إنقاذ البشرية جمعاء، وهذا لاهوتي أيضاً.
في الحالة الإسرائيلية، يتجاوز اللاهوت السياسة. يمرّ جمال على الأدب الإسرائيلي. نتحدث هنا عن الروايات الأكثر مبيعاً. وبمعزل عن «ميوعة» عاموس عوز وطرفة يساريته، يظهر أثر اللاهوت اليهودي التقليدي في روايات إسرائيلية معاصرة، كالـ «الملوك III» (2008)، و«سبع أمهات» (2010) ليوخي براندس، و«من الكتاب المقدس مع الحب»، لرام أرون. وهذا جزء لا يتجزأ من الفكر الصهويني الكلاسيكي. لقد بذلت الصهيونية بتياراتها المتنوعة جهداً وافراً لتقديم «هوية» حداثية لنفسها. واقتضى هذا البحث عن أسانيد تدعم فكرة وجود «إرث يهودي»، في مواجهة التحديات التي واجهت اليهود خلال عصر التحرر والقومية في أوروبا، على أن يكون هذا من خلال التشديد على تفسير «علماني» للتصور الديني في ما يتعلق بالرابطة التاريخية بين الشعب اليهودي وأرض أجداده، كما يلاحظ في كتابات هايرنش غيرتز وموشيه هس وغيرهما. غير أن المؤسسة الإسرائيلية استطاعت «تمييع» هذا النقاش.
أوري إليستور ليس مائعاً. إنه أحد أبرز «منظري» الصهيونية المعاصرة. وفي «شطحاته»، لا يقيم وزناً لـ «محظورات» الصهيونية الاشتراكية، ولا يبدو بحاجةٍ إلى تقية: «من دون قصة الكتاب المقدّس، نحن لسنا سوى استيطان استعماري في الشرق الأوسط». أرييل شارون، الغني عن التعريف، هو ترجمة عملانية لكل هذا، خاصةً حين يجزم أن «وقوع المستوطنات حيث تقع ليس مصادفة، إذ أنها حمت مهد ولادة الشعب اليهودي ووفرت العمق الاستراتيجي الحيوي لوجودنا». ولا يفوت الباحث، أمل جمال، التأكيد على أن تطبيق الأطر التحليلية الاستعمارية وحدها لفهم سياسات الاستيطان الإسرائيلي ليس كافياً. البعد التوراتي يجب أن يكون حاضراً، لأن الصهيونيين أنفسهم لم يضعوه «على الرف». أما الكتاب المقدّس، ومرجعيته التاريخية، فتقتضي الإحالة إلى ألمع المؤرخين الإسرائيليين المعاصرين على الإطلاق: شلومو ساند (راجع المقال أدناه).