عوّدنا يوسف عبدلكي في فحميّاته على مناخات قاتمة، تحكي معاناة سياسية ووجوديّة مريرة، في مواجهة الاستبداد، والقهر، والظلم، وغياب العدالة. وصلت لوحته ذروة السرياليّة في مرحلة سابقة، تكاد ترمز إليها أيقونة الساعد المفتول والقبضة المشدودة، أو العصفور الميت قرب سكين مغروسة في لوح الخشب.
ثم أخذ لوحته إلى جنائزيّة حزينة، خرساء، تستوحي القصص الشعبي، وتجسّد الواقع المحترق من حوله، الواقع العربي، وتحديداً السوري في قلب انتفاضة شعبيّة استحالت حرباً أهليّة مؤلمة، وكابوساً فظيعاً، وانهياراً عظيماً. من هذه المرحلة التي تلت أحداث العام 2011، تبقى في الذاكرة أعمال قويّة مثل الرأس المقطوع في «يا نجمة الصبح فوق الشام علّيتي…»، وأمهات الشهداء مع صور أبنائهن، وخصوصاً تحفة «مار يوحنا فم الذهب مسجّى في جامع الحسن حي الميدان بدمشق». وإذا به في معرضه الجديد (حاليّاً في «غاليري كامل») يفاجئنا بسرديّة جديدة، قوامها الجسد الأنثوي العاري.
«العري» وسط هذا الخراب، في قلب المذبحة، أمام حقول الموت التي تحجب الأفق؟ نعم! إنّها طريقة يوسف عبدلكي كي يكون راهناً، كي يخاطب زمنه ومعاصريه، كي يعيد الاعتبار إلى الفن التشكيلي ـــ أي إلى الحضارة ـــ في وجه الظلاميّة والهمجيّة. يوسف يمدّ لسانه للهمجيّة على اختلاف تجلياتها، ويرسل إلينا جميعاً من دمشقه إشارات أمل ومقاومة وتمسّك بالحياة. هذا الفنان الشاهد، مؤرّخ المأساة إذا جاز التعبير، عاد إلى دمشق العام 2005 من منفاه الباريسي الطويل بسبب نشاطه السياسي المعارض، ولم يغادرها بعد ذلك. بقي هنا بعدما دخلت بلاده أتون الموت والجنون، واختار أن يعيش داخل اللوحة، شاهداً على الملحمة من قلبها. الفنّان الذي يناضل مع رفاقه منذ عقود، من أجل مشروع تغيير تقدّمي ديمقراطي، ومن أجل نهضة سياسيّة ووطنيّة أساسها العدالة والتنوير، بقي أميناً لفكره وأخلاقه. إستقر مجدداً في مدينته، منذ أكثر من عقد، من دون أدنى مهادنة مع السلطة طبعاً، إنما ـــ وهذا هو الأهمّ ـــ بعيداً عن العقود الفاوستيّة القاتلة التي وقّعها للأسف بعض أقرانه «المعارضين»، مع شيطان الانحطاط والرجعيّة والطائفيّة والظلاميّة والوصاية الاستعماريّة، على حساب بلدهم وشعبهم.
نأتي على ذكر هذه الأمور المعروفة التي ترصّع سيرة فنان مبدع وشجاع، لأن بعض النقاش الذي أثارته، أو قد تثيره، أعمال يوسف عبدلكي الجديدة، يهدد بإعادتنا إلى نقطة الصفر. نقاش عقيم من شأنه أن يسلّط الضوء على الردة الهائلة التي شهدتها دمشق وبيروت وكل حواضر النهضة العربيّة. هل سنجد أنفسنا مضطرّين إلى الدفاع عن لوحات العري كرافد أساسي، أكاديمي أصلاً، من روافد الفن؟ أرأيتم ماذا فعل بنا «الربيع العربي» الأعور الذي شكّل قفزة هائلة إلى الوراء، ونكبنا، بدلاً من تحقيق الحريّة والعدالة لشعوبنا، بطاعون الظلاميّة والانحطاط؟ لقد عرفت الحركة التشكيلية العربية، مغرباً ومشرقاً، منذ الآباء المؤسسين ـــ يكفي أن نذكر في لبنان عاريات عمر الأنسي ومصطفى فرّوخ ـــ بعض الروائع في مجال العري. كانت أعمالهم «طريقاً إلى النهضة القوميّة»، كما يذكّر المعرض الذي نظمته كيرستن شايد خلال الربيع الماضي في الجامعة الأميركية في بيروت، وهي المتخصصة في تاريخ الفن وعالمة الأنثروبولوجيا («الأخبار»، 28 أيار/ مايو 2016). النعيق الذي سمعناه أو سنسمعه عن «خيانة»، أو «فضيحة»، أو «ترف»، أو «تعال على الواقع»، يصب في خانة خطاب ناشز هو نتاج الأميّة الفكريّة المطعّمة بانتهازيّة سياسيّة أو بهوس ظلامي.
عبدلكي راوي الفجيعة، هو نفسه ملتقط جسد المرأة في كل أحواله وتحولاته. ما زال يرسم ضد الموت، وضد الاستبداد، ومن أجل الحياة. العري ليس خنوعاً كما تهيّأ لـ «الشاعر الانغماسي» في أحد مواقع الربيع القطري، بل صرخة حياة! معرض عبدلكي الحالي ليس تبريراً للسلطة، بل تمسّك بالدولة في مواجهة الجراد الأسود. في سوريا لطالما اندرجت لوحات العري في سياق الحركة الفنيّة، أما في زمن الربيع القطري… فقد باتت تصدم وتحمل رائحة الفضيحة. العري ليس خنوعاً. إيروس، إله الحب والرغبة والجنس عند الإغريق، ينتصب هنا في مواجهة ثاناتوس، إله الموت، وقاطعي الرؤوس. في لوحات يوسف عبدلكي الجديدة، المرسومة بتقنيّته المعهودة (فحم على ورق)، نجد الأسلوب نفسه، وهاجس التفاصيل والظلال، وأضغاث الحكاية المخنوقة في الحلق. من هذه اللوحات تنبعث إيروسية حزينة، يمكن أن نقول غنائيّة مكتومة. إنّها سوريا العريقة، تتحدّى الظلاميّة وتشهر في وجه رسل الانحطاط والتكفير، راية الرغبة والحب والجسد. من قلب السواد الدامس، يبزغ جسد المرأة، من عمق المأساة، بصمت، تنبعث نغمة خافتة: إنه نداء الحريّة.