تطرح الباكورة الروائية لمعن أبو طالب «كل المعارك» (الكتب خان ــ القاهرة)، تساؤلات عدّة عن العنف؛ هل هو مجرد ظاهرة هامشية في حياة الأفراد؟ أم أنه يكشف الجوانب المضمرة من الذات الإنسانية، بل ويجلي جوهر فرديتها؟ تتخذ الرواية طريقاً مغايراً لكل المقاربات السردية العربية للعنف، إذ إنها رواية عن الرياضة، وتحديداً «الملاكمة».

تتحدى الرواية المفهوم الجامد والقديم لما يسمى «الأدب الرفيع»، الذي همّش موضوعات كثيرة واستبعدها خارج نطاقه. وإن اتجهت بعض الكتابات الروائية الشابة إلى خرق هذا المفهوم عبر توظيف البوب آرت، أو الكوميكس والغرافيك نوفيل (مثل «استخدام الحياة» لأحمد ناجي و«ليمبو بيروت» لهلال شومان)، فإن الكاتب الأردني وأحد مؤسسي موقع «معازف» الإلكتروني يقدم مساهمته الروائية في تحدي المفاهيم الجامدة، من خلال موضوع جديد لم يتناوله الأدب العربي الحديث من قبل.
ترسم الرواية حياة الشاب سائد حبجوقة، متتبعةً صراعه الداخلي المتأرجح بين مستقبله الواعد في وكالة الدعاية والإعلان وشغفه الحديث بالملاكمة، بين المكتب والحلبة، بين عالم المال والأعمال وعالم النزال والدم والعرق. يكتشف سائد موهبته في الملاكمة ويواظب على تدريباته. وفي الوقت نفسه، يحقق نجاحات على صعيد الوظيفة، ويتألق في الاجتماعات مع المديرين والعملاء.
ترصد الرواية تطور سائد كمقاتل، كيف يكسب النزال تلو الآخر، وكيف يصقل مهاراته كملاكم. يحاول اكتشاف هويته كفرد، واستعادة إرث قتالي شبيه بما فعله آباؤه وأجداده. كأنه يخلق من خلال الملاكمة حكايته الذاتية، التي ستتناقلها الألسن من بعده، كما تتناقل حكاية جده، سعد الدين حبجوقة، التي سمعها مراراً من أبيه وأقاربه. جده الذي قاتل المستعمرين الروس في أرض القوقاز حتى آخر رمق، ونجا في اللحظات الأخيرة، ثم قدم إلى المدينة مع آخر دفعة شركس. كذلك هناك الحكايات عن خاله سميح، والبطولة ومعسكرات المقاومة وحمل السلاح. يتحتم على حبجوقة الاختيار بين الوظيفة والملاكمة، حين يُعرض عليه الاحتراف في بطولة عربية ستقام في دبي، هي الأولى من نوعها. يقرر الاستقالة من وظيفته في الوكالة، وتتأزم العلاقة بصديقته دينا. يواجه بهذا الاختيار حقيقة ماضيه وسنه المتأخرة كملاكم وطبقته الاجتماعية المتوسطة التي تزدري الرياضات القتالية. يستعد لنزاله الأول في عالم الاحتراف، حيث إما أن يصبح البداية الحقيقية للمال والعالمية، أو يخسر كل شيء بخسارته.
برعت «كل المعارك» في تصوير النزالات والتدريبات بالكلمات. اعتمد النص على السرد الوصفي. وتمكنت الرواية من الوصول إلى توازن صحيح يتيح للقارئ «رؤية» ما يجري على الحلبة، عبر التوازن بين خلق صورة ذهنية لما يحدث وتحرك النثر بسرعة موازية. هكذا قامت الرواية بمحاكاة حالة الفرجة على مباريات الملاكمة ومشاهد التدريب، كما حين يقول «انسل سائد مرة أخيرة من تحت هجوم خصمه ولكنه بدلاً من الخروج كلياً، بقي قريباً وزرع جانبية في كلية خصمه»، و«لف جذعه موهماً إياه أنه سيطلق مستقيمة كالتي صدّها مرات عديدة، ولكنه حولها إلى جانبية لم يرها العيساوي، وقعت بدقة بين جبينه وعينه...». كذلك يوظف السرد إمكانات اللغة في إيصال الصور الحسية للألم والخوف: «يراقب الدم يندفق من قضيبه مختلطاً بالبول. خط أحمر داكن يخرج منه ويتبعثر في المرحاض. هي ثمن ضربات بالحاج إلى كليتيه».
ينقض جيرار جينيت التعارض بين ثنائية السرد أو القصّ والخطاب (Narrative Discourse: An Essay in Method) بالكشف عن عدم وجود قص «خالص»، فدائماً هناك علامات دالة على عقل يصدر أحكاماً من خارج النص، لكن جينيت يؤمن أن القص/ السرد قد «وصل إلى أعلى درجات نقائه لدى هيمنغواي». تنتهج «كل المعارك» نهج هيمنغواي وأسلوبه، إذ استطاع أبو طالب إنتاج نوع من الجملة «العارية» من الزخارف اللفظية، على طريقة هيمنغواي، التي تسجل الحركة في الطبيعة وتوحي بالتوتر والسخط في العلاقات بين الناس. يثير الخطاب الروائي تساؤلات عدّة عن الهوية وتمثلات المدينة والاغتراب في مجتمع الاستهلاك، لكننا نواجه تلك الأسئلة من خلال المواقف الدرامية للشخصيات من دون إدراج الأحكام أو التفسيرات داخل السرد. الأحداث والأفعال هي جوهر المضمون الزماني والدرامي للرواية، والقليل من تأملات وتساؤلات سائد مضفرة معها.

رواية «كل المعارك»
تطرح سؤال «البطولة» ومفهوم البطل في عالمنا

تتجلى روح هيمنغواي أيضاً من خلال ارتباط مهارة الكتابة المكتسبة على المستوى الذهني ﺑـ «مهارات إنسانية أخرى متعلقة بالعالم الحقيقي، وخصوصاً الرياضة الدموية»، كما يوضح فردريك جيمسون. هيمنغواي مارس الملاكمة وكتب عنها، وكذلك فعل أبو طالب. لا ينحاز النص الروائي إلى رؤية بعينها عن العنف، لكنه يلمّح إلى كونه جزءاً أصيلاً من الطبيعة الإنسانية. تتأكد تلك الفرضية عبر رصد الرواية لتمثلات الشخصيات للعنف، ومستوياته المختلفة.
في بداية الرواية، يقرر سائد في إحدى الليالي أن يتابع فيلماً على الإنترنت، ليلهي نفسه عن التفكير ويتمكن من النوم قبل بزوغ الصباح. يُظهر له محرك البحث من ضمن ما يظهر، وثائقيات عديدة عن المذابح والحروب: الخمير الحمر، الأرمن، التوتسي، الصرب، الحرب الباردة، الحرب الأهلية اللبنانية... كأن السرد يقيم مواجهة بين مستويات العنف المختلفة، أو كما تقول حنة أرندت عن لعبة الحرب والتسليح التي تقوم بها الدول والقوى العظمى: «لعبة لا يقوم هدفها «العقلاني» في إحراز النصر». هكذا، فإن جوهر فعل العنف نفسه الذي تسيّره «مقولة الغاية والوسيلة» كما ترى أرندت، يصير أكثر عقلانية داخل الحلبة، بل إن الحلبة تصبح الساحة الأكثر عدلاً وصدقاً مقارنة بالحياة والعالم خارجها، أو كما يقول سائد: «شعر أنه في مكان مختلف عن كل ما هو خارجه، مكان كل شيء فيه واضح، الفوز والخسارة، القدرة والموهبة والضعف... لا مكان هنا للهيام في الرماديات».
تؤكد الحكايات الفرعية في الرواية على العلاقة الحتمية بين العنف والإنسان، في مشاهد مثل خناقة أسيل وسعد، أو محاولة باتريك (مدير سائد) المجنونة في اللحاق باجتماع شركة الإتصالات، واختراقه مظاهرة في الشارع بسيارته. يضرب المتظاهرون الزجاج بالعصي، يخفض سائد رأسه تحت التابلو، بينما يبقى باتريك «شامخاً كتمثال سوفييتي». تتضح شخصية سائد من خلال الشخصيات المحيطة به، وخصوصاً الضبع ورضا أبوغوش، كأنها مرايا تعكس، مع شقي المدينة، الاختلاف لا الشبه. يزيح السرد القشور الخارجية عن سائد حبجوقة، الواحدة تلو الأخرى. وتتابع الرواية تقشير الهوية كأنها بصلة ذات طبقات متعددة. من خلال الملاكمة، يتساءل سائد عن فردانيته وجوهر شخصيته. يعجب بتمثال إغريقي اسمه «الملاكم يستريح». يفكر في أن هذا المقاتل لا يختلف عن ملاكمي اليوم في شيء. يفكر في القتال، متى يحق له ومتى يصير مستنكراً من الآخرين، وكيف يقاتل اليوم لو سُلب حقه: «هل ينتمي هو إلى عصر آخر؟ أكانت حياته لتكون ذات معنى إن تبادل مكانه مع صاحب التمثال؟». وتتجلى له الحقيقة عقب استقالته، فيفكر: «لست مديراً تنفيذياً لاستراتيجيات تسويقية مختصاً بالسلع السريعة المبيع، بل مجرد مقاتل. صنعة أزلية يفهمها أجداد أجداده ويهزون رؤوسهم بصمت موافقين».
تناهض رحلة سائد مجتمع الاستهلاك، كما تكشف عن روح المدينة، التي لم تذكر الرواية اسمها لكنها تتشابه مع العاصمة الأردنية عمان. رحلة موازية من الشق الغربي للمدينة إلى الشرقي، والصراع الطبقي والاجتماعي الذي يعتمل تحت سطحها الهادئ.
تعمد الرواية إلى سبر أغوار الملاكمة ومعرفة أسرارها. لذلك، هي ليست مجرد خلفية للرواية يمكن الاستعاضة عنها بأي رياضة أخرى، ولا يمكن اعتبارها مجرد توطئة للحديث عن العنف. يتناول السرد فلسفة الملاكمة، الرغبة في الفوز، الإرادة والألم والنشوة، التكرار المضني للتدريبات وخواء ما بعد الهزيمة: «لا ليس فيها متعة، بل رهبة يصاحبها شعور قوي مشوب بالمسؤولية...». تستدعي الملاكمة سؤال «البطولة» ومفهوم البطل في عالمنا. عندما حدد توماس كارلايل، في القرن التاسع عشر، أنواع الأبطال عبر التاريخ، أنبياء وملوكاً وأدباء، كانت البطولة شيئاً مستساغاً تنتج «رجالاً كباراً يصنعون التاريخ». اليوم يمكن اعتبار الرياضيين أبطال العصر الحديث، إذ إن «الاحتياج إلى البطولة تشبعه الرياضة» كما يقول كويتزي.
الملاكمة بوصفها رياضة فردية تتورط فيها الأنا إلى الدرجة القصوى. هي محاكاة للحرب، حيث الفوز والخسارة مسألة حياة أو موت، لكن المفارقة تكمن في الجمال، فالحرب تخلو من الجمال، لكن الملاكمة لا تخلو من الجانب الجمالي. ربما تكون الملاكمة الرياضة الوحيدة التي يمتزج فيها الجمالي بالبطولي بالأخلاقي. يقول سائد في كلمات دالة: «وبقيت معه تلك اللذة العميقة، هي ربما ما يتحدث عنها رجال الدين والبوذيون والصوفيون، ويعرفها أفضل منهم الرياضيون والراقصون والمقاتلون، هولاء الذين يصبحون للحظات، أكثر رجال العالم حكمة».
«كل المعارك» سردية جريئة، تحقق رهانها الخاص، ولا تقع من فوق الحافة الحرجة التي صنعتها حبكتها المشوقة. تذكرنا برواية تشاك بولانيك «نادي القتال» وثور سكورسيزي الهائج، وتقدم تشريحاً للعنف كما يفعل الكندي ديفيد كروننبرغ في أفلامه. تذكرنا أنّنا كبشر ننتمي إلى تلك السلالة من عظماء الرياضة. لكن أهم ما تذكرنا به «كل المعارك»، أنّ قيمة الأدب لم تتحدد يوماً بموضوعه.