إنه الأول من الشهر الأخير في السنة. إنه يوم حلم اليقظة، بل كابوسها، لدى محدودي الدخل من موظّفي الطبقة الفقيرة. في هذا اليوم، يتخيّل الفقراء كيف ستتبخّر معاشاتهم التي قبضوها للتوّ، لتأمين الحد الأدنى من الفرح لأولادهم في العيد. والأولاد براءةٌ ظالمة. لا يعرفون أن الألعاب لها ثمن.
يعتقدون أنها معروضة في المحال مجّاناً، ولا يفهمون لماذا يمتنع أهلهم عن جلبها لهم… فيكرهونهم. مشاعرهم السلبية هذه مشروعة تماماً، إن رَكنّا إلى منطقهم. فهم يطوفون فطرياً في أوهام آخر وأنقى مراحل الشيوعية، بينما الواقع غارقٌ في أوسخ مراحل الرأسمالية. كل هذا قبل إدراكهم معنى المادّة. أمّا بعدها فتتعقّد المسألة أكثر، وقد عالجها زياد الرحباني في «بالنسبة لبكرا، شو؟» من خلال ثلاثية زكريا/ثريّا وولدَيْهما والقائمقام.
في اليوم الأول من الشهر الأخير في السنة، ينطلق أيضاً مهرجان «بيروت ترنّم». إنه الهدية الموسيقية الجميلة والمجانية. يمكن للفقراء أن يهدوا أولادهم بعضاً منها، فتأثيرها الإيجابي الباطني عليهم لن يتأثّر إطلاقاً بتحالف الدين ورأس المال الذي يقوم عليه هذا المهرجان (رغم نوايا المنظّمين الطيّبة). مع أنه أسوأ تحالف ضد الفقراء بحسب كارل ماركس، إذ يجمع بين: المخدّر والنصّاب. الأول يضمّد جرح الفقْر على طريق الجنة، والثاني يمعن في خرْز خنجر الاستغلال في الجرح المخدَّر.

مشاركة عازف الكمان نداء أبر مراد، والقائد التونسي فيصل القروي، والمرنْمتين غادة شبير وعبير نعمة

إنه فعلاً (أي التحالف التاريخي) اختراع بشري غاية في العبقرية، تلك الشرّيرة. لكن المستوى العالي والممتاز لهذا المهرجان، يجبرنا على وضع الماركسية جانباً والتركيز على الجانب الفنّي منه ودعوة الناس جميعاً للإفادة منه. فالثورة التي ستجعل الدين لله والأرض للجميع، تحتاج أولاً إلى وعي وحسّ مرهف وأخلاق، وتأمين هذه العناصر يبدأ بحضور أمسيات من هذا النوع. إنّ التطوّر الذي سجّله «بيروت ترنّم» هذه السنة، يجعلك تتجاهل مشهداً تجهل متى ستنساه. مشهدٌ بطله ذاك المستثمر الذي حضر المؤتمر الصحافي للمهرجان، داعماً ومموّلاً الموسيقى في ذكرى ولادة مَن خصّ التجّار فقط بالعنف الجسدي. أسماء الفنانين المدعوّين إلى إحياء الأمسيات المرتقبة، تجبرك على تجاوُز حادثة حبّة توت العلَّيْق البرّي التي سقطت من يد «البطل» الأنيق الذي مَنَعه كبرياؤه حتى من استدعاء نادلٍ ينتظر أوامره في هكذا مواقف، فملأت بقايا التوت المكان. تتمنّى في لحظة كهذه أن يكون هناك جنة… ونار طبعاً.
إنها الدورة التاسعة من المهرجان البيروتي السنوي الذي يزداد مهنيّة وأناقة سنة عن سنة. البرنامج عظيم، والآتي، كما بشّرنا المدير الفنّي للمهرجان الأب توفيق معتوق، أعظم. وعد الأخير بأن تكون دورة اليوبيل العاشر استثنائية، مقارنةً بالدورة الحالية الاستثنائية أصلاً. الأمسيات التي بانتظارنا من شأنها، بدون مبالغة، إحراج المهرجانات العريقة الصيفية في الجانب المتعلّق بالموسيقى الكلاسيكية. على رأس إنجازات المهرجان هذه السنة، النجاح في دعوة الفائز بالمرتبة الأولى في الدورة الأخيرة من «مسابقة شوبان الدولية — 2015» في العزف على البيانو (تحصل كل 5 سنوات)، الكوري الجنوبي سيونغ-جين شو (1994). إنّها مفاجأة لا نتوقّعها عادةً إلاّ من «مهرجان البستان» الذي يبقى المثال الأعلى لهذا النوع من المهرجانات في لبنان والشرق الأوسط.
السيّد سيونغ سيعزف مقدّمات شوبان الـ24 التي صدرت في تسجيل حي عند الناشر الألماني «دويتشيه غراموفون» مطلع السنة، وتلتها منذ أسبوع فقط أسطوانته الثانية التي حوت كونشرتو البيانو الأول والبالادات الأربعة (كم نتمنّى لو يعزف إحداها من خارج برنامج أمسيته البيروتية) لشوبان أيضاً. بالإضافة إلى شوبان، على البرنامج سوناتة لشوبرت والسوناتة الوحيدة لأحد أعمدة مدرسة فيينا الثانية، آلبن بيرغ (عملٌ يكشف مهارات من نوع آخر، مقارنةً بالجانب الرومنطيقي من البرنامج).
السنة الماضية، افتُتح المهرجان بـ «قدّاس المجد» لبوتشيني، آخر كبار رجال الأوبرا في إيطاليا. هذا المساء، تكرارٌ لتجربة السنة الماضية مع قدّاس مجد «إيطالي» أيضاً، لكن لرائد الأوبرا الإيطالية في القرن التاسع عشر، المؤلف الشهير روسّيني. يتعاون في هذه الأمسية إيطاليون (الغناء المنفرد) ولبنانيون (الغناء المنفرد، الجوقات وقيادتها، الأوركسترا وقيادتها) بقيادة الأب توفيق معتوق. تستمر المواعيد حتى 23 الجاري، وفيها الكلاسيكي الآلاتي الغربي والشرقي، الغناء الأوبرالي والإنشاد الديني الشرقي والغربي (ترانيم ميلادية بمعظمها). وتشارك في إحياء الأمسيات مجموعة كبيرة من الفنانين الأجانب واللبنانيين والعرب، أبرزهم «رباعي موديلياني» (ضيف «بعلبك» السنة الماضية)، و«رباعي كودالي»، وعازف الكمان نداء أبر مراد، والقائد التونسي فيصل القروي، والمرنْمتان غادة شبير وعبير نعمة، والثنائي الروسي — الذي يعود إلى المهرجان هذه السنة أيضاً — بوريس أندريانوف (تشيلّو/ ضيف «البستان» عام 2013) وألكسندر غيندين (بيانو/ أيضاً ضيف «البستان» عام 2012)، وثلاثي «أفانسيان» (الذي يضم عازف بيانو مرموقاً هو جوليان ليبير)، وجوقات عدة تابعة لمعاهد وجامعات محلية.

البرنامج كاملاً

* «بيروت ترنّم» بدءاً من الثامنة من مساء اليوم حتى 23 كانون الأول (ديسمبر) ــ كنائس وكاتدرائيات وسط بيروت ومحيطه ــــ الدعوة عامّة




من البرنامج

«قداس» روسّيني
1/12 ــ س: 20:00
(كاتدرائية مار جرجس للموارنة/ وسط بيروت)


«قدّاس المجد» هو من أول الأعمال الدينية القليلة لروسّيني (1792 — 1868). وضعه عام 1820 ليصبح أحد أشهر مؤلفاته في هذه الفئة. تركيبة العمل التقليدية تتألف من مطلع القدّاس في الطقس الكاثوليكي (الـ «كيريي» والـ «غلوريا» أي المجد). نسخة روسيني مدتها حوالى الساعة، ويتخللها مقاطع غاية في الجمال.


سيونغ- جين شو
6/12 ــ س: 20:00
(كنيسة القديس يوسف/ مونو)


الأمسية الأبرز في «بيروت ترنّم» يقدّمها عازف البيانو الشاب سيونغ-جين شو، الذي يزور لبنان بعد سنة تماماً من نيله المرتبة الأولى في «مسابقة شوبان». إنها سابقة في لبنان، وأقرب حدث إليها في هذا السياق كان أمسية يوندي لي (1982) في «مهرجان البستان — 2010»، بعد عشر سنوات من فوزه بالمسابقة المذكورة.


«رباعي كودالي»
10/12 ــ س: 20:00
(كنيسة مار مارون/ الجميزة)


إذا كان سيونغ-جين شو، عازف البيانو الشاب، من أبرز نجوم جيل الموسيقى الكلاسيكية الجديد فـ «رباعي كودالي» هو من أعرقها في فئتها. فـ «بيروت ترنّم» يستمد قوّته، هذه السنة، من وجود هذه المجموعة في دورته. إنه رباعي غنيّ عن التعريف وسيؤدي أعمالاً لرخمانينوف (!)، كودالي (المؤلف الذي يحمل الرباعي اسمه) ودفورجاك.


غادة شبير/ عبير نعمة
18 و19/12 ـــ س: 20:00
(كنيسة مار الياس/ القنطاري)


لمحبّي الترانيم الميلادية الشرقية أمسيتان تحييهما المرنّمتان المحترمتان غادة شبير وعبير نعمة. للفنّانتين قواسم مشتركة في مجال الغناء والموسيقى عموماً، بالإضافة إلى الترنيم الديني طبعاً، أي لناحية الغناء التقليدي والطربي كما البحث في التراث الموسيقي والغنائي.

رامي خليفة
22/12 ـــ س: 20:00 (كنيسة مار لويس للآباء الكبوشيين/ وسط بيروت)


يشارك هذه السنة في مهرجان «بيروت ترنّم» عازف البيانو اللبناني رامي خليفة (1981)، إذ يحيي أمسيةً تحمل عنوان Jazzy Concert، أو أمسية جازية (نسبةً إلى الجاز). خليفة المتعدّد الاتجاهات في عزفه، قال في مقابلة قديمة إنه مرّ على الجاز وتخطّاه إلى عوالم موسيقية حديثة. فلنكتشف ماذا سيقدّم في أمسيته المرتقبة.

الختام مع الأوبرا
23/12 ــ س: 20:00
(كنيسة مار مارون/ الجميزة)


قبل أن يسدل الستار على دورته التاسعة، يختتم «بيروت ترنّم» فعاليّاته الموسيقية بأمسية مخصّصة للمقتطفات الأوبرالية تحييها السوبرانو الإيطالية المرموقة كارمن جياناتازيو (شاركت في «مهرجان البستان» السنة الماضية). بالتأكيد حصّة الأسد ستكون للأعمال الإيطالية، أما المرافقة فلن تكون للأوركسترا، بل للبيانو فقط.