عندما قررت لارا قانصو الآتية من مجال الأدب العمل على نص «إصر الحب» أحد نصوص مسرح النو، كان هاجسها أن تتصدى لإنسانية كاملة في حالة الحداد: خيارها أن تبتعد عن العنف والحروب والتجاذبات الإقليمية والدولية والدفاع عن هذه الحرب أو تلك، لتتحدث عن الحب. الحب بكل بساطة.
استعانت بحكاية «إصر الحب» (le tambourin de soie ـ دف الحرير) للممثل والكاتب الياباني زيامي موتوكيو (طوّر مع والده مسرح النو) وبنت في عرضها رابطاً قوياً مع الشعر الصوفي لاجئةً إلى «منظومة منطق الطير» قصيدة للشاعر فريد الدين العطار النيسابوري التي تعد من أعظم ما نظم في الأدب الفارسي عامةً والأدب الصوفي خاصةً. خرجت بنص ثالث وضع مقاماً آخر لقصة «دف الحرير». اقتصر النص الكلاسيكي الذي كتبه زيامي في القرن الرابع عشر على وقوع كنّاس عجوز في غرام أميرة تشترط عليه أن «يخترق سر الدف الصامت ويسمعها الموسيقى التي تصدر عنه ويجعلها قابلة للوصول إلى قصرها». عندما تسمع الصوت، ستسمح له أن يراها مجدداً. لأجل تحقيق هذا الغرض، تأمر بتعليق دف من الحرير على أحد جذوع شجرة قرب النهر. الا أن دف الحرير لا يصدر صوتاً. عبثاً، حاول البستاني أن "ينطِق" الدف، فاختار الانتحار سبيلاً للخلاص. بعد موت البستاني، يلاحق الأميرة شبح هذا الأخير أو ما يعرف بـ "شيريب" (Shiryb) وفقاً للأساطير اليابانية، فتصاب بالجنون.
أضفت قانصو على حكاية زيامي بعداً روحانياً صوفياً لشخصيات العرض. ابتعدت عن منطق العقاب وكان الفناء روحاً أو جسداً، خياراً لكلا الشخصيتين. حوّلت الكنّاس إلى بستاني (روجيه عساف) عاشق للطبيعة يجلّ الورد والنبات. فالوردة تملك قدرة اختراق باطن الأرض في حين لا تملك الشمس بحد ذاتها تلك القدرة. لم تعد الأميرة مجرد أميرة مزهوة بحبٍ خارج حدود القصر. يبدأ عرض قانصو بتوق تلك الفتاة، التي تحتفل بعيد ميلادها الـ 18، لاكتشاف سر الحياة. مشهد يبين عن زهد خفي لدى الأميرة الشابة التي لا يعنيها شيء في عيد ميلادها سوى رؤية 10 آلاف نجمة لأنّ عطر الياسمين يتطلب قطف عشرة آلاف وردة. طلبت من خادمتها تأمين عشرة آلاف وردة في أمسية عيد ميلادها. حتى مربية الأميرة، تحدثت عن الإدراك بقالب كوميدي بسيط.
كان نص العرض فائقاً في شاعريته (اذا استثنينا شخصية المربّية)/ ولم يخل من فانتازيا طفولية. لعب على الأضداد وفكرة العدم، والفراغ أو الخواء: فراغ الذات من كل الأمور الدنيا بغية الاتحاد مع عناصر الطبيعة وعشق الإله... أما عن قصة الدف فأضفت عليها الكاتبة حكاية جدة الأميرة التي تنصح حفيدتها عن سر الدف: «هيدا الدف سره بصمتو. إذا بيوم قررت تسمعي، بتصيري مجبورة تلحقيه».
شكّل حضور روجيه عساف الممثل مفاجأة جميلة

في خط موازٍ لسرد الحكاية على الخشبة، كان صوت دالين جبور غناءً يبوح بما أخفته تفاصيل الحكاية أو حتى انفعالات الشخصيات. أنشدت وغنت ونقلت المتلقي إلى مكان آخر. كذلك، كان الرقص المعاصر حاضراً عبر مقاطع راقصة تتكامل مع المشاهد الغنائية والحوارية ومقاطع الفيديو التي نراها تُمرَّر على عناصر السينوغرافيا (خمسة دفوف متفاوتة الحجم في الخلفية). كل ذلك فرض جواً من الرهبة والسكون. ساعد في ذلك مينيمالية الحكاية بحد ذاتها التي اختزلتها لارا قانصو في أحداثها ومعانيها الأساسية من دون الخوض في التفاصيل الصغيرة وفي حوارات تطول، وأضافت على كل معنى أو حدث بعداً جمالياً يستخدم تارة الغناء، وطوراً الرقص أو الفيديو. كل عنصر تبرزه على حدة.
اقتصرت السينوغرافيا على أشكال دائرية ومثلثين حديدين ضخمين في الخلف، وصخرة من البازلت البركاني في مقدمة الخشبة ومجموعة من الأنابيب البلاستيكية الشفافة التي تتدلى من الأعلى توحي تارة بأنها ممرّ، وطوراً أنها بقعة أشعة شمسية، أو شجرة ياسمين أو حتى تلك الفسحة الزمكانية التي تسبق لحظة البعث. تذكر عناصر السينوغرافيا وتحديداً الأشكال الهندسية، بفكرة السعي وراء الكمال والارتقاء.
«عشق» عرض أنيق، نظيف من ناحية الإستيتيك، متقن نسبياً. شكّل حضور روجيه عساف الممثل مفاجأة جميلة لكل من حضر هذا العرض. إذ اعتاد معظمنا أن يراه في إطار المخرج الملتزم، أو المخرج/الممثل الملتزم. هذا العرض هو فرصة للمشاهد ليرى روجيه عساف في صورة مختلفة، كممثل فقط ينقل للمشاهد عشقه للنبات والحياة والأميرة.
على صعيدٍ آخر، كان من المفيد العمل اخراجياً على النقلات بين المشاهد، وبدا أداء سارة وردة (الأميرة) متشنجاً ومفتعلاً معظم الأحيان، فيما أضفت روزي يازجي (مربية الأميرة) طرفةً على العرض بالرغم من أن أداءها لم يخل من بعض المبالغة. كذلك، كان لحضور دالين جبور، بإنشادها الصوفي وقعه الدرامي.
قد يكون مفيداً أيضاً، على سبيل تذوّقٍ استباقي لما يخبئه العرض، ختام هذا المقال بالمقطع التالي من المسرحية: «بس يجي الليل، بتتحرّر عيونك. بصير كل شي يبكّيك: العتمة اللي ما ممكن تفهمك. القمر اللي كتير بيغيب. النجمة اللي مستحيل تتلاقى معها اللي ولا مرّة بتردّ عليك والحب اللي بضل مضيع حالو».

*«عشق» للارا قانصو: حتى 17 نيسان (أبريل) ـــ «مسرح مونو» (الأشرفية ـ بيروت) ـ للاستعلام: 01/202422