لندن | ما زال بابلو بيكاسو (١٨٨١-١٩٧٣) الفنان والرّجل، قادرين على إثارة الضجة والاهتمام والإعجاب حتى بعد أكثر من أربعة عقود من الغياب. «غاليري البورتريهات الوطنية في لندن» ـ صالة نخبوية في العادة يزورها جمهور معني متخصص له باع في الفنون - تشهد إقبالاً غير معهود على معرضها الجديد «بورتريهات بيكاسو» (يستمر حتى ٥ شباط/ فبراير).يضم الأخير أكثر من تسعين عملاً للفنان، شديدة التنوع من لوحات ورسوم تخطيطية ومنحوتات برونزية ورسوم كاريكاتورية، تجمعها موضوعة: الوجوه. المعرض الذي نظمته الغاليري بالتعاون مع «متحف بيكاسو» في برشلونة، ضم أعمالاً، أغلبها معار من متاحف ومؤسسات عالميّة، لكن بعضها ممتلكات شخصيّة وافق أصحابها من جامعي اللوحات على المشاركة بها لأسابيع، منها أعمال تعرض للمرّة الأولى في لندن. رسم بيكاسو وجوه جميع من حوله، لكنه كان رجلاً بنساء كثيرات، فانتهى المعرض اللندني عن أعماله المتعلقة بالوجوه كأنه استعادة لسيرته الشخصية مع النساء: زوجات وعشيقات وصديقات وموديلات. معظم هذه الأعمال لم تكن مدفوعة الأجر وقت رسمها، مما يعنى فرصة رائعة لتذوق تجارب الفنان وتحولات أسلوبه عبر السنوات من دون قيود (السوق) التي كان بيكاسو يمقتها.
وَصْفُ عمل لبيكاسو - التكعيبي الأكبر - بأنه بورتريه ليس بالأمر السهل، ولا ينبغي أن يلقى جزافاً. بيكاسو كان يرسم من الذاكرة، ويطلق لخياله العنان في تحوير الملامح والعواطف والمشاعر بحيث أنك إما لا تعود متأكداً مما تراه (أهو وجه بشري أو مشاعر مكعبة؟)، أو أنك ترى بالفعل شخصاً بعينه من خلال خطوط قليلة قوية.

هنا تماماً كان سحر بيكاسو الذي تمتع بقدرة عجيبة على إعادة تعريف الواقع والحقيقي. يضم المعرض لوحات كاريكاتوريّة رسمها بيكاسو، وهو بذلك يقدّم خطاً جديداً في تتبع أعمال هذا الفنان من خلال استكشاف طريقة رسمه للوجوه في كاريكاتوراته، وهي ربما الإضافة النوعيّة الوحيدة لمعرض الغاليري عن معارض سابقة، خصوصاً معرض ١٩٩٦ (بيكاسو والبورتريهات: تمثلات وتحولات) الذي شمل وقتها عدداً أكبر من الأعمال، ونشر على هامشه دليل محترف عن المواد المعروضة. الحقيقة أن المصادر تذكر أن بيكاسو استهوته الأعمال الكاريكاتورية منذ صغره، إذ سحرته بقدرتها على التقاط الملامح بخطوط قليلة، والتعبير المليء بالسخرية والشديد التجريد في آن. كان بيكاسو قد أصدر في فترة ما من حياته ـ بالتعاون مع رفيق له ـ مجلّة ثقافيّة كان يضع كافة رسومها الكاريكاتورية، لكنها لم تعمّر طويلاً وإن بقيت الآن كمصدر هام لفهم تلك المرحلة من تطور التعبير لدى رائد الفن التكعيبي. رتبت صالات العرض في الغاليري حول مراحل حياة بيكاسو الذي كان فنه دوماً مرآة لحياته الشخصيّة. البداية من غرفة تتضمن بورتريهاته الذاتية التي رسم أغلبها مطلع القرن العشرين، ثم صالة تتركز الأعمال المعروضة فيها على أيام شبابه في باريس وبرشلونة، وفيها نلمح وجوهاً لراقصات وبائعات هوى، لننتقل بعدها إلى صالات عدة تعكس تعاقب النساء في حياة بيكاسو: بداية من فيريناند أوليفر الموديل التي عاشت معه في باريس منذ عام ١٩٠٥، ثم أولغا كوخولوفا زوجته الأولى وراقصة الباليه الروسيّة، ثم شريكاته الأربع اللاحقات: الشقراء ماريا-تيريز وولتر، ودورا مار، وفرانسوا جيلوت، وأخيراً جوسلين بيكاسو، زوجته الثانية والأخيرة، وتأخذ كلّ منهن زاوية من مكان العرض، لكن أقواهن حضوراً في هذا الجزء هي جوسلين الممثلة في أعمال عدة. أكبر عدد من الأعمال المعروضة (حوالى 40 لوحة ومنحوتات عدة) تتمحور حول سيلفيت ديفيد، وهي صبيّة كانت في التاسعة عشرة حين تعرّف إليها بيكاسو لما كان في السبعين من عمره.

أطلق لخياله العنان
في تحوير الملامح والعواطف والمشاعر
رسمها عشرات المرات «بينما كان يدخن سجائر الجيتان الفرنسيّة بشراهة» كما قالت في مقابلات للصحف. يتزامن المعرض مع صدور قصة حياة هذه الموديل في كتاب بعنوان «كنت سيلفيت». وبينما لم يصدر عن المعرض دليل خاص، فإن أمينته البروفيسورة إليزابيث كاولنغ لديها كتاب مرجعي في هذا الخصوص تحت عنوان «بورتريهات بيكاسو» وفرته إدارة المعرض للزائرين.لعله من اللطيف الانتباه إلى تطور شكل وجه كل من هؤلاء النساء في مراحل علاقتهن المختلفة ببيكاسو، وتطوره الفني كذلك. مثلاً أولغا زوجته الأولى تظهر في «بورتريه أولغا بيكاسو ١٩٢٣» بأسلوب رسم واقعي يختلف تماماً عن «امرأة في قبعة (أولغا) ١٩٣٥» المرسومة بأسلوب تكعيبي عنيف في تعاطيه مع الأشكال، مما يعكس تغيّراً في المشاعر، وتحولاً في طرق التعبير. رغم العدد المحدود من المواد المعروضة، فإن الجمهور، ومعظم النّقاد كانوا مرحبين بتجربة استعادة علاقة بيكاسو بالوجوه وبالنساء معاً في هذا المعرض. كتبت الـ «إيفننغ ستارندرد» الشعبيّة تقول: «مرة أخرى، ورغم كثرة المعارض عنه، هذا المعرض الجديد تأكيد آخر على عظمة بيكاسو».