المشهد الأول، موكب من السيارات المفيّمة على مدخل إحدى القرى اللبنانية، يحاول إدخال «تابوت» لجثة زعيم مافيا الجبل، ودفنها في القرية الحدودية مع سوريا، ولكن الجيش اللبناني كان بالمرصاد، ورفض إدخال «التابوت».
في تلك اللحظة، كان الجمهور يترقب مشهداً عنيفاً، وتدخلاً سريعاً من عصابة شيخ الجبل، اشتباكاً مسلحاً، أو عملية خطف، أو أي بداية مشوقة للصراع الذي يقوم عليه المسلسل.
لكن زوجة المرحوم (نادين نجيم) التي تحمل الجنسية الكندية، أنقذت الموقف وتوسلت إلى الضابط باللغة الإنكليزية، ودخل «التابوت» إلى القرية بمعية ملكة الجمال السابقة.
هذه البداية الباهتة كانت للمسلسل الأكثر مشاهدةً في سوريا ولبنان هذا العام، والذي كان يعوّل عليه لإعادة «الهيبة» إلى الدراما السورية، ولكن «الخيبة» وقعت عندما اكتشف الجمهور أن قضية التجارة بالسلاح عبر الحدود التي تبناها المسلسل، جرى تمييعها وتسطيحها، إلى درجة أن شيخ الجبل (تيم حسن) أصبح مجرد «تاجر لبن» في الحلقات الأخيرة. أما قضية تهريب المخدرات، فقد جرى التعتيم عليها، وأصبحت مسألة ثانوية أمام معضلة حضانة الطفل «جبل».
وبالإضافة إلى الجهل الفاقع في تركيبة العشائر البقاعية، يضعنا البناء الحكائي للمسلسل (هوزان عكو وسامر برقاوي) أمام لخبطات كرتونية. على سبيل المثال، ظهرت شخصية عليا في البداية مستبسلة في الدفاع عن مستقبل ابنها، وخاضت من أجل ذلك معارك شرسة، لكنها من دون مبرر درامي منطقي تنقلب كلياً وتصبح مدعاة للتندر في الحلقات الأخيرة، وتصبح فجأة امرأة تفضل تاجر سلاح ومخدرات على فلذة كبدها، وهو ما يجعل من الحبكة كلها مجرد ثرثرة. ربما أراد المنتج (شركة سيدرز آرت برودكشن/ الصباح) والأبطال ذلك لأسباب ترويجية، وهنالك قلم نفذ التعليمات بدقة، وهذا مبرر في عالم البزنس فقط، وليس في مجال الدراما.
ويبدو أن مشاريع «الاقتباس» لم تغادر بعد سراديب شركة «الصباح» والمخرج سامر برقاوي، والدليل هو التشابه الكبير مع المسلسل التركي «عشق وجزاء» ثم فيلم «الجزيرة» لأحمد السقا ومسلسل «جبل الحلال» لمحمود عبد العزيز.

«أوركيديا»

وكانت الخيبة الثانية هذا العام مع المسلسل الأكثر كلفةً، والذي تباهى صنّاعه بأنه جمع ممثلين وممثلات من جميع الأطراف «موالاة ومعارضة»، فوجد الجمهور نفسه أمام «حفلة تنكرية» من ثلاثين حلقة، في ديكورات بائسة، ونص غير متماسك أجهز عليه المخرج وأداء بعض الممثلين، وكانت المحصلة منتجاً رديئاً، لم يكن مقنعاً حتى للأطفال.
وكما كان متوقعاً، انتهى «أوركيديا» (ﺇﺧﺮاﺝ حاتم علي، ﺗﺄﻟﻴﻒ عدنان العودة ـ انتاج «إِيبلا») بتبرؤ الكاتب من نصه، إضافة إلى سيل من الشتائم المتبادلة على الموقع الأزرق بين الكاتب والمخرج. أما المنتج فقد وقع في ورطة حقيقية، وكان الخاسر الأكبر في هذه اللعبة، لأنه لم يجد رجلاً صادقاً يقنعه بأن لا جدوى من إنتاج «فنتازيا» منفصلة عن الواقع، وأن هذه «الأوركيديا» الهزيلة كانت كافية لإنتاج خمسة مسلسلات اجتماعية تغوص في الواقع، أو تلامسه على الأقل، وتحظى بنسبة مشاهدة مقبولة، وبالنتيجة تدّر على منتجها بعض الأرباح، وهذا حقه الطبيعي.

البيئة الشامية والكوميديا

كالعادة، أنقذ المسلسل «الكوميدي» «باب الحارة» الموسم الرمضاني هذا العام، فالمسلسل الذي تخطّى كل أنواع الهبوط الدرامي واستهلك كل الفنتازيا الممكنة، ما زال يحظى بنسب مشاهدة عالية في سوريا والعالم العربي. ويُحسب لهذا المسلسل ـ على رداءته ــ أنه أبقى اللهجة السورية موجودة على الشاشات العربية في أوقات الذروة، وأسهم في عدم اندثارها لدى الجمهور العربي، في ظل صعود منقطع النظير للدراما المصرية.
وحاول مسلسل آخر تقديم البيئة الشامية بمنظور مختلف عن «باب الحارة» (إخراج ناجي طعمي ــ كتابة ـ سليمان عبد العزيز- إشراف بسام الملا)، فاستورد فنانة من لبنان بمبلغ خيالي، مقابل تصوير «فيديو كليب» طويل من ثلاثين حلقة بمشاركة عشرات النجوم الذين ظهر معظمهم كالكاراكوزات، بإيقاع درامي بطيء، ونص ممل ورتيب. ورغم عرضه على عشرات المحطات، لم يحقق «قناديل العشاق» (إﺧﺮاﺝ سيف الدين السبيعي، ﺗﺄﻟﻴﻒ خلدون قتلان) نسب مشاهدة تقارن بما تحققه «ملحمة» «باب الحارة».

لماذا صار المخرجون يتحاشون دخول «التابوهات» الحقيقية ويلهثون وراء الدراما المعقمة


وفي الكوميديا، كان الجمهور على موعد مع مجموعة من المهرجين في «بقعة ضوء 13» (مجموعة كتّاب وإخراج فادي سليم)، حاولوا في مواقف مصطنعة ومستهلكة استجداء بعض الابتسامات الخجولة من المشاهدين، وكان السؤال الأكثر تداولاً بين المشاهدين هذا الموسم: أين النكتة؟
هكذا، في نهاية كل موسم درامي، يكرر الصحافيون الانتقادات السابقة ذاتها تقريباً، مع تغيير في أسماء المسلسلات. وللسنة السابعة على بدء أزمة الدراما السورية، يتباكى النقاد على الحال التي وصلت إليها هذه الصناعة وسط أسئلة جوهرية يجب طرحها: أين هو النص والفكرة الخلاقة في الدراما السورية اليوم؟ لماذا أوصد صناع الدراما الباب أمام كتاب كبار لهم تاريخهم، وفتحوا الباب على مصراعيه أما ثلة من مراهقي السيناريو؟
ما هو سبب «تغييب» كاتب بحجم سامر رضوان عن دراما بلده للعام الثالث على التوالي، ولصالح من توقف نص «فوضى» لحسن سامي يوسف ونجيب نصير هذا العام؟ ألم يكن فرصة لإنقاذ شيء من هذا الموسم الرديء؟ وفي دراما البيئة الشامية، أين كاتب «أيام شامية» أكرم شريم؟! وأين هو ممدوح حمادة في الكوميديا؟ ولماذا يغيب أستاذ الفانتازيا هاني السعدي، صاحب «الجوارح» و«البركان» و«غضب الصحراء»، الذي قدم ــ رغم كل الانتقادات ـ مسلسلات ما زالت حاضرة في ذاكرة السوريين والعرب، وأسست لصناعة الدراما السورية في عصر الفضائيات وأدخلتها إلى كل بيت عربي؟ ومن سمح باستباحة مهنة الإخراج؟ لماذا تحوّل بعض المخرجين، ومنهم من كنا نظنهم كباراً، إلى بائعي بسطة، وفي أحسن الأحوال، مجرّد «مُرابعين» لدى منتج لا يفقه شيئاً، يقدمون له منتجات بأقل التكاليف؟ ولماذا يتحاشى هؤلاء دخول «التابوهات» الحقيقية ويلهثون وراء الدراما المعقمة وقصص الاغتصاب والخيانة والحب المعلّب؟
أما الممثلون، فقد جرى تصنيفهم خلال سبع سنوات عجاف، ضمن قوائم العار التابعة للمعارضة، أو ضمن قوائم المفصولين من نقابة الفنانين التابعة للحكومة السورية، وهكذا ابتعد معظم الكبار عن الشاشة، وفتحت الأبواب أمام الدخلاء من عديمي الموهبة ونجمات السيليكون لتصدّر الشاشات.
في كل بلد صناعة تميّزه، وصناعة السوريين الثقيلة خصوصاً في بداية الألفية الثالثة، كانت الدراما بكل جدارة، فأي بلد هذا يسمح بانهيار صناعته الوحيدة الرابحة؟
لن يكون هناك دراما حقيقة، دون وجود دولة تحميها، وتخرجها من لعبة السياسة والموالاة والمعارضة. ولن تكون هناك دراما من دون دولة تحمي الرأسمال الوطني الذي يستثمر في الدراما وتؤمن قنوات العرض المحترمة.
دراما السوريين اليوم أمام تهديد وجودي ومخاض عسير. في الحالة الأولى سوف نكون بحاجة إلى «تابوت» آخر لدفن ما تبقى من هيبة هذه الصناعة. وفي الحالة الثانية، نحن بحاجة إلى «انتظار» معجزة تحدث طبياً مرة في المليون تشبه حالة «الولادة من الخاصرة».