الافتتاح في «روّحي» (2015، 100 د.) Go Home لجيهان شعيب بالغ التعبير عن الفيلم نفسه، وماهر التأسيس لما سيليه. «ندى» (جولشيفته فراهاني) تجرّ حقيبة العودة إلى بيت العائلة القديم في الضيعة اللبنانيّة. تمرّ شاحنة عتيقة، مثيرةً عاصفةً صغيرةً من الغبار أمام عينيها. مسار راقصة الباليه الآتية من باريس مشوّش منذ البداية. النظرة الأولى على بيت الطفولة، لن تكون واضحة.
أصابعها المتشابكة أمام وجهها تحيل على انتقائية متعمّدة في الرؤية. ها هو مكان الذكريات مع «جدّو» الطيّب، وشوالات السكّر الشهيّ، التي حوّلتها الحرب الأهليّة إلى دشم عسكريّة. الغبار معشّش داخل الحيطان المهجورة بطبيعة الحال. معادل نفسي – سيميائي لذاكرة وهويّة وبلد وأجساد معرّضة للتلاشي عند أيّ خضّة أو انبعاث من الماضي. هذا «خطّ الهجرة العكسي». يعود السينمائي إلى الديار، معايناً الأضرار، وملبّياً نداء الهويّة والجذور. قد يحصل ذلك من خلال شخصيّة متخيّلة بالكامل، أو أنا أخرى alter ego، أو مزيج بينهما كما في هذا الشريط. هنا، نشمّ رائحة الحرب الأهليّة من خلال الجيل التالي لها. لعنة الاقتتال مترسّبة في قاع مادّة المخ الرماديّة. «ندى» ترجع باحثةً عن جثّة جدّها. تستقرّ في منزل، صار خرابةً بالمعنى الواقعي والمجازي.

جيل جديد يؤمن بأنّ التطهير يكون بالمواجهة لا بالتجاهل وترحيل المشاكل

لسان حالها يقول: «لي قبور في هذه الأرض» (2014، 110 د ـــ إخراج رين متري). تنظيف البلاط بالمياه المعدنيّة، وحكّ الجدران الأظفار، وكشط الماضي عنها، ستكون بداية رحلة من الاستكشاف والتحوّل النفسي. حضور Presence أشباح الحرب متجسّد في الليالي المقمرة، سواءٌ أكان «جدّو» أم «ندى» الصغيرة ذاتها. أهل الضيعة يحومون حول المكان. من الغريب ألا يكنّ بعضهم الاحترام للجدّ «الشهيد» بنظر حفيدته. يصل الأخ «سام» (ماكسيمليان سويرين)، بهدف عمليّ واضح: بيع المنزل والسفر بثمنه. لا شكّ في أنّ كثيراً من جيهان شعيب، مغروس داخل بطلة باكورتها الروائية الطويلة، بعد وثائقي وبضعة أفلام قصيرة. السينمائيّة اللبنانيّة (1976) ولدت في بيروت في العام التالي لاندلاع المأساة. غادرت البلاد، لتنشأ في المكسيك، وتدرس الفلسفة والمسرح في فرنسا. لاحقاً، عادت إلى بيت القرية الذي تحوّل إلى مقرّ عسكري أثناء الحرب، لتجده مهدّماً مع رسائل كره على حجارته. اسم أختها «ندى» أيضاً، وهي راقصة. يا للصدفة! هي إحدى شخصيّات المهجر الأربع (مع وجدي معوّض، وكاتيا جرجورة، وباتريك شيحا)، التي عادت في وثائقي «بلد الأحلام» (2011 – 84 د.)، لتصطدم صورة الطفولة المتخيّلة عن الوطن بالواقع على الأرض. النبش الحميمي في الذاكرة، يتحوّل من الوثائقي إلى الروائي في «روّحي»، مع إطلاق سراح الخيال وتكوين الشخوص والمحيط. توضع الهويّة تحت الميكروسكوب، لتخضع لعمليّات ترميم وتصحيح. يغدو بيت العائلة ساحة مواجهة مع أطياف الأمس، بعدما كان مصنعاً للخوف من مفاهيم طفولة ومراهقة في الروائي القصير «تحت سريري» (2005 – 44 د – جائزة أفضل فيلم قصير من اتحاد الصحافيين الفرنسيين 2005، وعُرض في أسبوع النقاد في «مهرجان كان السينمائي»). الآن، يصل الشريط إلى «متروبوليس»، بعد تجوال دولي في دبي وبوسان ودبلن ومهرجان الفيلم اللبناني. غير أنّ الأمور تتغيّر في «روّحي»، وفق سيرورة نفسيّة هادئة ودقيقة. مغامرة داخليّة مشوّقة، تراوح بين الجهل والإنكار والصراع والقبول والخلاص. بلوغ المرحلة الأخيرة لم يمرّ بالتنضيج الكافي. ما سبقها تمّ بعناية فائقة (سيناريو جيهان شعيب)، تجاوزت اللازم في بعض الأحيان. لا اكتراث لمبرّرات من قبيل: لماذا العودة الآن؟ كيف اقتصر التميّز في العلاقة مع «جدّو» على الحفيدة دون أخيها، رغم تقاربهما الواضح؟ هذا الـ «جدّو» ليس ذاك الملاك النوستالجي. لا أحد ينجو من الحرب نظيف الكف. يتفكّك غباش الذاكرة. يزول الالتباس. يبشّر البيت بمعناه الحقيقي كوطن وملجأ. تشترك «ندى» مع «ربيع» (2016 ــ 105 د.) لفاتشي بولغورجيان في البحث عن الهويّة، والنجاة من مستنقع الويلات (الأخبار 14/12/2016)، إلا أنّ ماضيها أكثر قتامةً، مع مشاركة ملعونة صغيرة. يصبح الشريط دعوةً إلى الحب والتسامح. يركّب إكسيراً ضدّ الكره والدم والاغتراب. يضع ثقته في جيل جديد، لا ذنب له في كبائر الآباء. شباب متصالح مع نفسه. لا يجد حرجاً في نكء الجرح، والبحث عن المقابر الجماعيّة (لنذكر «ليالٍ بلا نوم» لإليان الراهب). يؤمن بأنّ التطهير يكون بالمواجهة لا بالتجاهل وترحيل المشاكل. نعم، من شهد ليس كمن سمع. رجال الأزمة ليسوا رجال الحل، وإن كان لا يقصيهم من جَنْيِ ثماره.
من الواضح أنّ شعيب تقصّدت استبعاد تيمة «فيلم طريق»، بعد تكرارها في وصفة عدد من أشرطة «الحرب والهويّة». أبقت على شخصيّة واحدة كمحور يدور البقيّة في فلكه، ويفعلون لخدمة تطوّره. هنا، لا بدّ من الإشادة بجولشيفته فراهاني (1983). الشابّة الإيرانيّة تحمل الفيلم بأداء شفيف، جميل، مهيمن، مازج بين البراءة والقوّة والضعف والشجن، مع قليل من المرح. تحلّ الشخصية باللا تحضير، وعدم الاطّلاع المسبق على بلد لا تعرفه تماماً كما «ندى». هي تستكشف، وتتفاعل مثلها. التحرّر من المرجعيّات الجاهزة، جعل انفعالاتها وتقلّباتها حقيقيّةً ومؤثّرةً وقابلة للتصديق والتأثير. فراهاني ممثّلة عابرة للقارّات والجنسيّات. وقفت أمام عدسات كبار في إيران، مثل داريوش مهرجوئي، وعباس كيارستمي، وبهمن قبادي، وأصغر فرهادي، وخارجها، منهم جيم جارموش، وريدلي سكوت، وهنر سليم، ولوي غاريل، ورشيد بوشارب، إضافةً إلى تجربة جون ستيوارت السينمائيّة «ماء الورد» (2014). كلّ من فرنسوا نور، وميرال معلوف، وجوليا قصّار، يمنحون أداءات لافتة. الإخراج على القياس تماماً. مضبوط على إيقاع المنعرجات النفسيّة، فلا استعراض أو تقنين (توليف: لودو تروش). ينطبق ذلك على صورة توماسو فيوريلي، التي تصبح أكثر وضوحاً مع تقدّم السرد، المنقسم بين حاضر وفلاش باك. سينوغرافيا لافتة داخل البيت، الذي يشهد قسماً صادقاً من أيّام الولدنة: «لبنان نحبّك إلى الأبد»، مع توقيع بالدم.

Go Home: بدءاً من الخميس المقبل ـــ «متروبوليس أمبير صوفيل»