تأخرت هوليوود في تقديم شخصية Wonder Woman (أو «المرأة الخارقة» بحسب الترجمة العربية التقليدية) في فيلم مستقل لأكثر من 75 عاماً تقريباً منذ ظهورها للمرة الأولى على صفحات مجلات الكوميكس الأميركية عام 1941. كان الاعتقاد السائد دوماً في ذهن صنّاع السينما الأميركية أن جمهور أفلام فانتازيا الأبطال الجبابرة في أغلبيتهم من الذكور.
وبالتالي، فإن فيلماً يتمحور حول شخصية نسوية لن يحظى بنجاح تجاري. أمر أكدت عليه تجارب فاشلة ـ أقله تجاريّاً - في «كات وومان» (2004) و«أليكترا» (2005). ولذا، فإن مقامرة «وورنر بروذرز» في Wonder Woman تستحق الثناء لا لكونها تقدّم شخصية امرأة كبطلة مطلقة «انتصاراً للنسوية» (الفيلم يكاد يكون عكس ذلك تماماً) بل لجرأتها في تحدي التصورات المؤسسة منذ عقود عن طبيعة جمهور هذه الأفلام لا أكثر.
قصة الفيلم مستوحاة بحرفية دقيقة من شخصية Wonder Woman وفق رسوم الكوميكس التي وضعها الأميركي ويليام مارستون الذي كسر قالب نموذج البطل الجبار الشديد الذكورية في الثقافة الشعبية الأميركية السائدة في ثلاثينيات القرن العشرين. قدّم للعالم تلك البطلة الحسناء القادرة على مقارعة الشر، رسميّاً لتساعد الإنسانية في التخلص من الكراهية والحروب، وعلى مستوى آخر أعمق (وفق مارستون) «لتحدي فكرة أن الإناث أضعف من الذكور، وإعطاء الإلهام لجميع البنات من خلال شخصية نسوية حامية للبراءة والجمال والخير، ومسلحة بقوى خارقة وأسلحة سحرية وبوصلة أخلاقيّة لا تخطئ في خدمة العدالة». هكذا، فبطلة الفيلم (تلعب دورها الممثلة الإسرائيليّة غال غادوت) تبدأ حياتها كـ «ديانا»، أميرة الأمازونيات المحاربات التي قضت نشأتها تتدرب على القتال في جزيرة معزولة عن العالم لا رجال فيها. تتغير حياتها لحظة لقائها بالطيّار (الأميركي حتماً) الوسيم ستيف تريفور (كريس باين) بعد تحطم طائرته الحربيّة على أطراف الجزيرة. يخبرها عن مهمته المقدسة في إطار صراع الحلفاء الخيرين ضد محور الشر (الألماني) خلال الحرب العالميّة الأولى، فتتخلى عن الخلود، وحياة الجنّة النسويّة الرغيدة لتنتصر للخير الأميركي في معركة أخيرة تنهي كل الحروب، وتفوز على الهامش بقلب الطيّار «النبيل». ربما التغيير الوحيد عن قصة الكوميكس كان نقل أجواء المعركة من الحرب العالمية الثانية (1939-1945) كما في الأصل إلى الحرب الأولى (1914-1918).
رهان «وورنر بروذرز» في Wonder Woman، لم يقتصر على المغامرة بتقديم البطولة المطلقة لشخصية نسوية، بل أيضاً أسندت إخراج الفيلم لسيّدة (باتي جينكنز، مخرجة فيلم «مونستر»)، واستدعت للعب دورالبطولة ممثلة غير معروفة تقريباً للجمهور العالمي (غادوت). لكن تلك الرّهانات كانت للحقيقة مدروسة ومتدرجة. جينكنز ليست جديدة على عالم أفلام الجبابرة والفانتازيات الغرائبيّة، وهي مُنحت وقتاً وميزانيّة بعشرات الملايين، وسُوّقت في الميديا الأميركيّة على أنها امرأة تقدّم فيلماً نسويّاً. أما غادوت، فقد كان التوجه مبكراً في «وورنر بروذرز» لإعطاء شخصيّة المرأة الخارقة المكانة الأساس في الفيلم بالبحث عن وجه غير معروف لتجنب الوقوع في شرك بين أفليك، الذي كاد أن يبتلع شخصيّة «باتمان» (الرجل الوطواط) عندما قدم الشخصيّة في فيلم وورنر «سوبرمان ضد باتمان».

نسويّة سلبيّة
ومحاكاة لـ «باربي» جميلة ومتحركة

غادوت قدّمت للفيلم المادة الخام التي يحتاج إليها تماماً. هي فارعة الطول، غاية في البهاء (حازت لقب ملكة جمال إسرائيل) وخبرتها الأساسيّة قبل الولوج إلى عالم السينما كانت في جيش «الدّفاع» الإسرائيلي مدربّة لفنون القتال! وهي بملابسها الأمازونية المثيرة وقدرتها على ادعاء البراءة، بدت كأنها خلقت لأداء دور Wonder Woman أفضل مما تصوره مارستون ذاته ربما، وإن تجرأ بعضهم على انتقاد صدرها الصغير نسبياً، مما قد لا يتوافق مع صورة ابنة الإله زيوس اليوناني القديم ــ أصل أسطورة الأمازونيات المحاربات ـ أو خلو إبطها من الشعر تماماً كأن الرّبات المقاتلات لديهن الوقت للقيام بأعمال التجميل كاملة في صالون أمازوني خاص قبل الشروع بخوض معركتهن المقبلة!
لا شك فيه أنه كان أجدى للمنتقدين بدلاً من التركيز على الجوانب الجسدية المحضة في شخصية غادوت، قراءة الأبعاد الثقافيّة لما يتم تقديمه لجمهور المستهلكين (والمستهلكات) كبطلة نسويّة مطلقة، وما هو في الحقيقة إلا نسويّة سلبيّة ومحاكاة لـ «باربي» جميلة متحركة غايتها القصوى أن تتشكل على ذائقة الرّجال فقط. وهذه طبعاً يستحيل فهمها حقيقة من دون إعادة تصور السياق الذي ولدت فيه الشخصية أصلاً. كانت مجلات الكوميكس قد تحولت إلى ظاهرة ثقافيّة بارزة في الحياة الأميركيّة خلال الثلاثينيات من القرن العشرين، وأصبحت جزءاً أساساً من تكوين ثقافة كل اليافعين هناك، حتى زاد عدد القراء المداومين فيها عن 40 مليوناً عشية الحرب العالمية الثانية. كانت شخصيات الأبطال الجبابرة في تلك القصص ذكوراً، فيما يقتصر دور النساء على تقديم الإعجاب والحب والدعم العاطفي للأبطال الذكور لا أكثر. ماريسون قدّم شخصية الـ Wonder Woman لجمهور اليافعين المصدوم من هجوم «بيرل هاربور» عام 1941 كي تنتقم للعدالة وتحمي أميركا من الفاشيست الأوغاد . قدّمت الشخصيّة بقوى خارقة وأدوات قتال سحرية ومعدات لاستخراج الحقائق من الأعداء موازية في ذلك للأبطال الرجال كـ «سوبرمان» و«وباتمان». لكنها تفوقت عليهم بالإغواء الأنثوي، والعواطف الجميلة والحنان الزائد، وهي في ظهورها ذلك ارتدت زيّاً من علمٍ أميركيّ كرمز للمناعة والجبروت، فبدت دواء شافياً لقلوب المصدومين.
القيم التي قدّمتها شخصيات الكوميكس الأميركيّة الرئيسية بما فيها Wonder Woman كانت بالطبع منتجات البروباغندا الإمبراطوريّة ذاتها: العدالة الأميركية، الحضارة الأميركيّة، انتصار الخير المطلق على الشر المطلق والترويج الساذج للحلم الأميركي. لكن قيم هذه المرحلة كانت ذكوريّة محضة، منحازة موضوعيّاً لذوي البشرة البيضاء ودون رحمة.
ولذا فإنّ Wonder Woman لم تأت كثورة على هذه المفاهيم، بل تكريساً لها. هي ربّة جمال كما يحبّها الرجال من ناحية المقاييس الجنسية والزي والشكل. تتخلى عن جنسيتها الأصليّة وحياة الأرباب لتدخل في خدمة الجيش الأميركي وتجد هناك غاية وجودها العليا، حيث خلقها زيوس أصلاً للدفاع عن بني الإنسان. وهي تصّوب أسلحتها على أعداء أميركا فقط، حينها، كانوا الألمان. لكن دور الروس آت لا محالة في نسخ قادمة. Wonder Woman إذن هي صورة المرأة كما تريدني أن أكون ـ عزيزي الرجل الأبيض ـ أخدم قضاياك الكبرى نهاراً وأتقمص شخصية الرمز الجنسي الكامل في الأوقات الأخرى.
بالطبع هذه الصورة البائسة عن المرأة الرمز، استدعت اعتراض عشرات الألوف من النساء على اختيار الأمم المتحدة لـ Wonder Woman كسفيرة فخرية للإناث في العالم، مما أجبر المنظمة الدّوليّة على التراجع عن هذا القرار السفيه. كتبت كثيرات وقتها أنّ «رمز المرأة كما يتم تقديمه في الكوميكس عن Wonder Woman هو إهانة لكل النساء».