في «من السماء» (2016 ـــ 71 د.)، يفتتح وسام شرف (1973) باكورته في الروائي الطويل، بتقويم ميراث الحرب الأهليّة، وإن بنحو غير مباشر. كما كثر من مخرجي بلده، يرى السينمائي والصحافي والمصوّر اللبناني الفرنسي شبح الاقتتال جاثماً.
أحياناً يطلّ برأسه على الأرض، فيما يبقى كامناً في النفوس وثقوب الإسمنت ومدافن القرى بنحو دائم. فعلها سابقاً في عناوين مثل الروائي القصير «جيش النمل» (2007) عن هوس السلاح، والوثائقي الطويل «كل هذا وأكثر» (2012، 62 د. – التانيت البرونزي في «أيام قرطاج السينمائية» 2012)، عن صورة بلد أنهكه الاحتراب، من خلال ثلاث شخصيّات، هي رفيق الحريري، حسن نصر الله وهيفا وهبي، استناداً إلى باروديا حول شعار وزارة السياحة اللبنانيّة. قبلهما، أنجز روائيين قصيرين، هما: «هز يا وز» (2004)، و«البطل لا يموت أبداً» (2006). كذلك، شاهدنا له أخيراً روائياً متوسط الطول، هو «فيما بعد» (2016، 34 د)، عن أرواح ضائعة، وجغرافيا خالية معادية لأبنائها.

يقوِّم ميراث الحرب الأهليّة في مناخ من الميلانكوليا والهذيان



عشر سنوات كاملة، ظلّ شرف ينتظر تمويل «من السماء» (Tombé du ciel بالفرنسيّة، Heaven Sent بالإنكليزيّة). في النهاية، حصل على ميزانية متواضعة (إنتاج شارلوت فنسان)، و15 يوماً للتصوير. تكلّل الصبر بعرض الفيلم في «مهرجان كان السينمائي 2016»، ضمن القسم الموازي الذي تبرمجه ACID «جمعية الأفلام المستقلة للتوزيع»، المؤلّفة من مخرجين فرنسيين وأجانب، يدعمون 9 أفلام فرنسية كل عام. سريعاً، حصل الشريط على موزّعين، منهم شركة Mad Solution التي تتولّى توزيعه في العالم العربي، على أن تنطلق عروضه في «متروبوليس أمبير صوفيل» الخميس المقبل. علماً أنّ العرض الأول للفيلم يقام اليوم (س:20:00)، يليه حوار مع المخرج بإدارة الزميل بيار أبي صعب.
هكذا، يمزج وسام شرف الجد بالهزل حواراً ومواقف. يحاول تسخير تناقضات بيروت وقاطنيها وضغوطاتها ومخاطرها وغرائبها، للمشي على خيط رفيع من السخرية والتهكّم. كلّه لإيصال مناخ من العبث واللاجدوى من أيّ شيء، وكلّ شيء. مجمله راهن ساكن، لا يمكن وصف اختلافه عن أيّام الحرب بالتحسّن الهائل، سايكولوجياً على الأقل. هذا بعض ما يستشعره سمير (رودريغ سليمان)، مقاتل الحرب الأهليّة العائد من الموت بعد 20 عاماً. يجد شقيقه عمر (رائد ياسين) حارساً لأمن فنّانة تنوي دخول معترك السياسة (يمنى مروان)، ووالده (جورج ملكي) غائباً عمّا حوله. هو الشبح المنبعث من الماضي. المشّاء العابر للثلوج والأسفلت. أعزب، يحمل ليسانس في الأدب المقارن، مع أطروحة بعنوان «بن لادن vs هيفا وهبي».
كأنّ وسام شرف يسحب حضور المال والمقاومة من شريطه السابق، لحساب أصوليّة وهابيّة تجد في الانتحار سلاحاً رادعاً لـ «الكفار». كذلك، يجلب مفهوم «السلاح زينة الشباب» من «جيش النمل»، إلى عقليّة الأخ الذي لا يتوانى عن حماية الفنّانة بجسده. سمير هائم في المدينة والريف برفقة شقيقه. يعاين الأضرار، ويعقد المقارنات بين الأمس واليوم. يتعرّف إلى رامي (سعيد سرحان) السكّير الحالم بالهجرة إلى ألمانيا، والجار المزعج بالاستماع إلى الأبراج بصوت عالٍ على الشرفة، والبوّاب المهووس بتحصيل الضرائب. تصبح الأمور أكثر مباشرةً بظهور طبيبة، تعمل على إيجاد مفقودي الحرب. يبدو أنّها حبيبة سمير السابقة. يسألها: «وكم مفقود لقيتو؟». يأتي الجواب بهدوء وبساطة: «لحد هلأ ولا واحد».
اللاتناغم أو الاغتراب تيمة الشريط عموماً. سمير شبح بمعنى الكلمة، ولكن ضمن إطار واقعي مكتمل. لا يشعر بالألفة مع بلد قضى على أرضه، ومحيط تفتّح على إدراكه، بمن في ذلك شقيقه الأقرب إليه. هذا الأخير «بودي غارد» مخلص، متيقظ، لكنّه لا يجيد تركيب مسدّسه. يواظب على قراءة «دليل البقاء على قيد الحياة»، رغم أنّه لم يختبر ضراوة الحرب عملياً. الأب فاقد الذاكرة، لا ينفكّ يتمتم بعبارات متشابهة. كلّهم مغتربون عن الواقع. أشباح بتنوّع المعاني والأشكال. لبنانيون من وحي بيكيت وكامو وبنتر. نحن في خضمّ العبث والميلانكوليا، وسط الهستيريا الهزليّة والصراخ ليلاً، بصدد تقشير البطاطا إلى جانب مسدّس على الطاولة. هل من طائل من العيش هنا؟
ما سبق دليل على جديّة طرح «من السماء»، إلا أنّ المعالجة لا تواكب الطموح (سيناريو وسام شرف ومارييت ديزير). بناء يبقى على السطح والمستويات الأولى، من ناحية الشخوص وتحليل المحيط، وربط الماضي بالحاضر. إنّه أفضل من أعمال وسام شرف السابقة، لكنّه لا ينجو من ضعف العمارة، والانجرار إلى تركيب الصور والمشاهد كـ «كولاج» متفلّت، لا كأسلوبيّة متماسكة. مرّة أخرى، يقع شرف في شرك الـ «كيف»، سعياً إلى تحقيق الـ «ماذا». الجانب التقنيّ جيّد الصنعة (سينماتوغرافيا مارتن ريت، صوت إيمانويل الزوقي، توليف وليام لابوري)، لا يحقق اختراقاً أسلوبياً، ولا يبلغ ذروةً لافتةً. باختصار، نحن بصدد أفلمة تقف على شاطئ واعد بالكثير، من دون الجرأة على مجابهة الأمواج، والغوص إلى كنوز الأعماق.

«من السماء»: بدءاً من الخميس المقبل حتى 7 حزيران (يونيو) ـــ «متروبوليس أمبير صوفيل» ـــ للاستعلام:01/204080