للفيلسوف الفرنسي الراحل جاك دريدا مقولة مختصرها أن «الكتابة في نفسها خديعة الإيجاز، يمكن لها أولاً أن تُستلهم من مجرد إمكانية الموت، ومن الخطر الذي تمثله عربة أو سيارة تتحرك بالنسبة إلى أيّ كائن. سيكون دبيب الكارثة مسموعاً، ومنذ أن تنبع في القلب، فإن رغبة الإنسان الفاني ستوقظ في النفس حركة أكيدة تقي من النسيان: تتخذ الكتابة عندها شكل البراعة». البراعة التي يتحدث عنها دريدا، تحيلنا مباشرة على مجموعة عباس بيضون الشعرية الأخيرة «ميتافيزيق الثعلب» (دار الساقي). تتكشف لنا منذ العنوان بهيئة ثعلب أليف، أقرب إلى ثعلب «الأمير الصغير» في قصة انطوان دو سان ايكزوبيري الشهيرة. مكور، مقبل نحو الآخر، علّمته الحكمة كثيراً من الرصانة والهدوء، معفّر بالتراب أو لصيق بالأرض، ثعلب يعيش في حالة سلم مع أعوامه السبعين قائلاً لها:
«أيتها السبعون/ تصلين وحدك/ ليس خلفك عربات ولا أحوال»، أو في مقطع آخر «السبعون/ يمكن أن أدّعي أني لست حياً ولا موجوداً/ قد أجبرهم تماماً/ فيضطرون إلى إهمالي/ ونسياني وسط الحياة».

إنه ثعلب بحواسه اليقظة في ميتافيزيق التأمل، واتقاد بريق الروح مقابل التآكل الفيزيولوجي للجسد الذي يفرد بيضون لآلامه وأمراضه فصولاً عديدة: «رأسي منصوب على قاعدته/ شيء كالحظ السيئ يتسلق عليّ/ إنها ساعة ينجر فيها الألم/ من فقرة إلى فقرة/ كزيت ساخن» أو «عندما تصرّ أسناني/ أحسب أنها تعض على ذكرى هاربة/ لكنني رغم ذلك/ ما أزال أحلم بالعود الأبدي /لشعري المتساقط وأسناني». لا تكاد تخلو قصيدة من قصائد المجموعة الـ 18 من حادث في التذكر والذاكرة. حوادث سمتها الرنين (résonance) بحيث يدع الأصوات القادمة من الأم (لونك القمحي لا أتذكره/ إنه من قماش الذاكرة/ كتان يمشي في الدم/ قشرة تنفت باليد/ تكاد تتساقط على الأصابع)، والأماكن الأولى (ستون عاماً/ تداعى السقف/ لكن العائلة بقيت تحت الغطاء/ أعادوا نصب الأعمدة التذكارية/ وناموا تحتها/ لم يخرجوا من الكهف/ اثنان فقط وصلا/الى فم المغارة)، والصداقات الآفلة تهتز وتتردد داخله، ويردّ عليها بجعلها تنعكس في جسد أصبح لهذا الغرض كثير التجاويف. تجاويف تجعل من الكتابة مكاناً للانفتاح أو صندوقاً للترجيع في عملية من التكثيف وإعادة التوافق كما يعرفها الفيلسوف الفرنسي جان لوك نانسي بأنها «التزام باللقاء أو حتى الذهاب إليه. الكتابة هي أخذ موعد للقاء يمكن أن يكون خفياً أو عابراً، أو ربما حفيفاً أو مساً سريعاً.

ينصب الميزان الضروري
بين الصوت والمعنى الذي
أشار إليه مالارميه
كما يمكن لهذا اللقاء أن يتك في التضاد، في الصدمة، في المجابهة والتنافر، ولكنه دائماً يعني المجابهة، التي لا تتم أبداً بوجود طرف واحد فقط».
مجابهة لا يستخدم فيها بيضون تكتيك الصدمة والتنافر، بل حكمة ثعلب «الأمير الصغير» الذي استطاع بيضون من خلالها أن يروض بلغة القلب أو «الميتافيزيك» هذه الخسارات الأكثر شراسة: «أن نتنفس في المكان نفسه/ وسط الأشياء نفسها/ ذلك يعني أن عمراً انقضى بينها/ أننا أكملنا كل شيء قبل أن يبدأ/ وصلنا جاهزين وليس أمامنا إلا الرحيل/ وداعاً أيتها الصداقات/ الحياة تبدأ بعدنا». جراح بيضون تصل إذن إلى السبعين مكتومة الصوت كأنها ولدت من دون أن يصنعها أحد: إنها لا تبدي أي مقاومة كأنها تسلم أمورها من غير جهد. لا يأخذ بيضون بثعلبه مرغماً إلى غابة الشعر، فما من شيء يصنع هذا «الشعر»، أو «الشعر المحض» الذي يستحيل تعريفه بحسب بيضون نفسه في إحدى مقابلاته الصحافية، كذلك البلاغة المحضة أو «الحقيقة». ما يصنعه الشاعر في مجموعته هو التآلف مع اللاجدوى، وهذا الحادث المتكرر الذي يقوى من تشابك الغيبي والمحسوس في ميزان النسيان والتذكر. أسلوبياً، تتدحرج القصيدة بانضباط في «ميتافيزيق الثعلب» بعكس التدفق السوريالي أو السرية المستفيضة (ولو لمسناها قليلاً في قصيدة «ملوك بيزنطة» وللشاعر وليم بتلر ييتس قصيدة بالعنوان ذاته أو المكتبة) التي وصمت مجموعاته السابقة. إنها قصيدة ترجع إلى نفسها دائماً وتتحرك بإرادتها، لئلا يضع هذا الثعلب نفسه تحت رحمة الحظ أو الصدفة. ينصب بيضون الميزان الضروري بين الصوت والمعنى الذي أشار إليه مالارميه، لينضبط الأسلوب مع معنى لا يترك نفسه ليتمزق أو ينزلق لما من شأنه أن يدهسه، بل ليبث كما قال دريدا نفسه «صورة عيد في حداد». لا يزال صاحب «الموت يأخذ مقاساتنا» و«أشقاء ندمنا» قادراً على إدهاشنا، شعراً ورواية. وقد توج أخيراً بجائزة الشيخ زايد عن روايته «خريف البراءة». دهشة شبيهة بتلك الجملة الرائعة بين الأمير الصغير والثعلب: قال الثعلب: هذا هو سري، إنه عادي جداً. نحن لا نرى جيداً إلا بواسطة القلب، فالأساسي لا تراه العيون. إن الوقت الذي أضعته من أجل وردتك، هو الذي جعل الوردة مهمة هكذا. إنك أصبحت مسؤولاً إلى الأبد عما دجنته، إنك مسؤول عن وردتك. وردة عباس بيضون هي الشعر ولا شيء سواه.