لندن | خلال عقد واحد فقط، غيّرت «نتفليكس» ثقافة تلقي المستهلكين في الغرب للأعمال السينمائية والتلفزيونية، ومثّلث أكبر تغيّر نوعي في فضاء صناعة الصورة في العالم. فالشبكة التي تملك الآن أكثر من مئة مليون مشترك (نصفهم في الولايات المتحدة) وفي جعبتها خطط فعالة للوصول إلى 125 دولة على الأقل خلال عامين، بدأت في سحب البساط من محطات التلفزيون الكلاسيكي، وتسبّبت في خسائر تقدّر بملايين الدولارات لدور السينما العامة، وقضت تقريباً على صناعة توزيع الأشرطة السينمائيّة وتأجيرها.
أطلقت «نتفليكس» أيضاً نموذج أعمال جديداً لتوزيع الأعمال الفنيّة والسينمائية، ما لبثت أن تبعتها فيه شركات أخرى مثل «هولو»، و«أمازون»، و«إتش بي» وغيرها، فيما دفعت منتجين كباراً مثل «هيئة الإذاعة البريطانية» إلى إعادة النظر بطريقة الوصول إلى المستهلكين، فقدّمت بديلاً موازياً من خلال خدمتها الخاصة على الإنترنت، وحوّلت بعض قنواتها الرئيسية إلى البث عبر الشبكة العنكبوتية
فقط.
لكن ثورة «نتفليكس» هذه لم تقتصر على توزيع وعرض منتجات الصورة، بل انتقلت إلى ملعب الإنتاج نفسه، مقدّمة مجموعة من أعمال درامية مسلسلة هامّة، عرضت حصرياً عبر منصتها، ثم أفلام وثائقيّة، وأخيراً أفلام دراميّة على نسق سينمائي تسبّبت في قلق بالغ في أجواء صناعة السينما، سواء في هوليوود أو عبر البحار ــ في أوروبا الغربيّة وبالذات في فرنسا ــ من تغيير «ثوري» في منظومة الإنتاج كلّها، تقوده هذه الشركة الصغيرة ذات الطموحات الهائلة. مثلاً، ستنفق هذا العام أكثر من 6 مليارات على شراء المواد المصوّرة وإنتاجها. شركة ــ إن استمرّت الاتجاهات الحاليّة ــ ستنتهي بشكل أو بآخر إلى هيمنة ولو جزئية على صناعة الصورة عالميّاً.

شرّعت البوابة لتقديم
وجهة النظر الإسرائيلية عن القضية الفلسطينيّة


كل هذه التحوّلات الثوريّة في صناعة الصورة وتوزيعها واستهلاكها لم تمّس قيد أنملة المحتوى الثقافي الكلّي للمنتَج الأميركي المصوّر (وما يقوم مقامه من إنتاجات بريطانية أو إسرائيلية وغيرها) الذي تقدمه «نتفليكس»، أو أنماط الخطاب الرأسمالي ــ الأميركي التي تحكمه أو نسق «للحقيقة» التي تريد مؤسسة الهيمنة في الإمبراطوريّة من رعاياها أن يعتنقوها.
فـ «نتفليكس» في النهاية هي ابنة شرعيّة للمشروع الرأسمالي الغربي، ومن غير المتوقع أبداً أن تنطق عن الهوى. بل يمكن القول إنّها تتعمد، وربما بشكل مبالغ فيه، تقديم أوراق اعتمادها للمؤسسة الأميركية من خلال ترويج مكثّف لجرعات البروباغندا الغربية والرواية الأميركية للتاريخ، ورؤية الإمبراطوريّة لشكل المستقبل الممكن.
خذ مثلاً مسلسل «ناركوز»، المسلسل المؤثرعن حياة بارون المخدرات الكولومبي بابلو إسكوبارالذي قتلته الاستخبارات المركزيّة الأميركيّة. سردت حياة الرجل في المسلسل من وجهة نظر الاستخبارات تحديداً، مع إهمال تام للإطار العام الذي صعد فيه الرجل، وهو الحرب القذرة التي شنتها الإمبراطوريّة الأميركيّة على شعوب أميركا اللاتينيّة طوال عقود الحرب الباردة، وتسببت في مقتل ملايين البشر بحجة مواجهة المد الشيوعي في الحديقة الخلفيّة لواشنطن. الاستخبارات المركزيّة نفسها، كانت وراء ترويج المخدرات في السوق الأميركية، موظفةً العوائد المجزية منها لتسليح مقاتلي «الحريّة» وتدريب فرق الموت وتنظيم انقلابات اليمين المتطرف في كل دول القارة الجنوبيّة من دون استثناء. في المسلسلات الأجنبيّة، شرّعت «نتفليكس» البوابة لتقديم وجهة النظر الإسرائيلية عن القضية الفلسطينيّة من خلال توزيع وإنتاج الأعمال الدراميّة الإسرائيلية عبر العالم كله. هناك الآن مسلسل عن بطولات الموساد الإسرائيلي (موساد 101) و آخر عن إنتصارات الشين بيت (فوضى)، وكلّها تقدّم الإسرائيلي والفلسطيني على نسق ثنائيّة الأميركي راعي البقر الطيّب والهندي الأحمر السيّء، وتوصلها إلى جمهور أبعد بكثير من حدود الجليل والنقب.
في الأفلام الدراميّة، أطلقت «نتفليكس» أخيراً «قصر الرمال»، وهو دفاع مرير عن وجهة النظر الأميركية في غزو العراق، يظهر جنود الإمبراطوريّة كمجموعة مراهقين أميركيين في رحلة، كلهم مميّزون وأبطال بشكل أو بآخر، يقاتلون في ظروف قاسية، ويستشهدون في عمليّة شجاعة لإصلاح تمديدات المياه لبلدة عراقيّة كانت قصفت بالخطأ. حتى لنكاد نبكي تعاطفاً مع هؤلاء الجنود المساكين، من دون أن نتذكر للحظة مليوناً ونصف مليون شهيد عراقي سقطوا بمعدل 3000 عراقي مقابل كل قتيل أميركي في ذلك الغزو الغاشم. هذا بالطبع من دون بقيّة الخسائر الهائلة التي تكبدها الشعب العراقي.
بالطبع تطول القائمة، لكن ما يجمعها أنّها ــ من دون استثناء ــ نظام متكامل من السرد الأيديولوجي الأميركي نفسه الذي عودتنا عليه هوليوود منذ عقود، لكن في تعليب جديد يناسب روح العصر وثقافة التلقي (عبر الإنترنت) الجديدة.
«نتفليكس» ثورة في شكل صناعة الصورة، لكن الشكل حتماً يتبع الوظيفة كما يقول لو كوربوزييه رائد العمارة الحديثة. وهنا وظيفة «نتفليكس» ليست أقل من صنع «الحقيقة» كما تريدها الإمبراطوريّة، بينما ندفع نحن المستهلكين نقوداً كي نراها. بالمناسبة، متى الموسم الجديد من «بيت من
ورق»؟