القاهرة | في حياة البلاد الحافلة بالأحداث السياسيّة، يسير التاريخ في تدوينه لما يدور على الساحة بسرعة الصاروخ. يسير حاصداً رؤوساً، ورافعاً أخرى. يركض خلف الأحداث المتعاقبة ليدوّنها في متوالية ملحميّة يتقلّص فيها حجم الحدث والشخصية بقدر تزايد الأحداث والشخصيات.في تاريخنا العربي الحافل بالمأساويات والانتصارات المتعاقبة، كان التاريخ نادراً ما يتوقف، بخاصة حين يتعلق الأمر بالمتطفّلين عليه والمنتفعين بالأحداث.

رُفعت الرؤوس وخُفضت الجباه بين طاغية وبطل، بين شهيد وعميل، بين من عاش للناس ومن خانهم. وإلى هذه النقطة، يسير التاريخ بشكله الروتيني المعتاد. وكما قيل، فإنّ التاريخ لم يتوقف كثيراً عند من اختاروا لأنفسهم بأن يكونوا على هامشه، وانحصرت أطماعهم أو طموحاتهم في الانتفاع من مأساة، أو حرب، أو ظرف تاريخي، أو ثورة شعبية. حتى أكثر هؤلاء عبقريّة لم يستطع مواصلة تطفّله ليحتل أكثر من سطر أو فقرة صغيرة في كتب التاريخ، ولم يحدث أن ورد سطر أو فقرة عنه في امتحان مادة التاريخ لأي عام دراسي.
ولكن كما لم يتوقف التاريخ عند تلك الشخصيات، كان للأدب رأي مخالف. فقد توقّفت رواية الراحل نجيب محفوظ «القاهرة 30» عند شخصيّة «محجوب عبد الدايم» بل دارت حوله كبطل للرواية... تلك الشخصية النفعيّة المفرّطة في الشرف الإنساني والوطني، ذلك المواطن الذي اختار أن يكون درجة وظيفيّة ومنفعة مفتوحة المدى والسقف لمن يمتلك مفتاح الترقّي الوظيفي.
كل ما سبق لم يكن مقدمة لشيء ما، بل هو متن الموضوع محل التناول والحديث. فقد كشفت وثائق «ويكيليكس» الأخيرة التي تم تسريبها من ملفات الخارجية التابعة لآل سعود، عدداً لا بأس به من الطفيليات التي أخذت تنمو على حواف الأحداث الجارية في المنطقة العربية خلال السنوات الأخيرة.
وفي ما يخص الشأن المصري، فلدينا من الوثائق ما يجب أن تتوقف عنده كتب الأدب في فنون الرواية والقصة القصيرة والسرديّات الشعبية، بل يجب أن تتوقف عنده قصائد الشعر لتصف تلك البرقيّات والطلبات والتوسلات التي انهالت على العائلة التي تحكم بلاد ما وراء البحر.
وحينما نتناول مثلاً تلك الوثيقة التي تتحدث عن طلب الإعلامي مصطفى بكري منحةً ماليةً من المملكة، سنجد أن هذا الرجل كأنّه عرف كلمة السر التي ــ حين يقولها أحدهم لهؤلاء ـــ تُفتح صنابير النقود لتفرغ ما تجود به الحقائب المغلقة على صاحب الكلمة السحرية. فقد بدأ الرجل كلامه بأنه بعد قيام «ثورة 25 يناير» عام 2011 في مصر، بدأت إيران بمدّ كفوف الوصال وحبال الود معه ــ باعتباره المهدي المنتظر ـــ مهددةً السلام الاجتماعي في المنطقة من خلال ما أسماه «المد الشيعي». وهو الأمر الذي يرفضه الرجل المُخلص. ومن فرط إخلاصه، وضع بكري في أذن مرساله طلبه بإمداده بمبلغ من المال ليجعل من صحيفته المجهولة صحيفة يوميّة تسقط على رؤوس المصريين كل صباح لتزيل منها آثار «المد الشيعي» الذي ــ يا للهول ــ يطاردهم يومياً بفعل إيران.

لدينا من الوثائق ما يجب أن تتوقف عنده فنون الرواية والسرديّات الشعبية

إذاً، إيران تطارد بكري كي يساعدها في غزو عقول المصريين باعتباره «راسبوتين» المصري، وتهدد من خلاله عرش آل سعود. لكن بسبب وفائه الجَمّ وحرصه التام على مصلحة العالم العربي والعوالم المجاورة من تلك الشرور، فقد قرر بكري أن يرفض الأيادي الممدودة له ويتوسّل لآل سعود بمدّه بملايين الدولارات ــ لا لنفسه والعياذ بالله ــ لكن كي يُنشئ محطة فضائية ويطوّر جريدته «الأسبوع» لتصبح يوميّة «لا نعلم كيف سيتعامل مع اسم الجريدة وقتها».
مصطفى بكري الذي أوسع الجميع مزايدة وسباباً علنياً وسرّياً، متهماً إيّاهم بتقاضي تمويلات خارجيّة لتنفيذ أجندات خبيثة في مصر، هو ذاته مصطفى بكري الذي يطلب تمويلاً من آل سعود كي يحمي الفطرة المصرية من السراب الذي يسمّيه «المد الشيعي».
مصطفى بكري الذي وقف في برلمان مصر يوزّع الاتهامات على المارّة بأنهم يسعون في الأرض فساداً في مقابل حصولهم على الأموال، هو ذاته الرجل الذي قصد تحقيق المعجزة المتمثّلة في تحويل جريدة «الأسبوع» إلى جريدة يوميّة بمجرد مرور دولارات الرمال والبترول من فوقه.
والجدير بالذكر هنا أن الشخص صاحب الوثيقة المرسلة إلى الخارجية السعودية، قد تفضّل مشكوراً بإضافة معلومات عن السيرة الذاتية لبكري. إذ قال بأنه فاز في انتخابات دائرته باكتساح، كما أنه على علاقة جيّدة بالمجلس الأعلى للقوّات المسلحة الذي كان يدير شؤون البلاد آنذاك، باعتبار أنّ ذلك القرب قد يكون شفيعاً له، رغم أن جماعة الإخوان المسلمين كانت أكثر قرباً للمجلس العسكري من بكري. وبالمناسبة، كان بكري يتبنّى نفس مواقف الجماعة في تلك الفترة، ويشاركها مواقفها ويؤيّد قراراتها خلال زمالته معها في برلمان 2011 المُنحل. وقد دعم المرسل في برقيّته طلبات بكري التي اختتمها بضرورة تأسيسه حزباً سياسياً يقاوم به «المد الشيعي» في مصر، مذيّلاً طلباته بكلمة السر التي تفتح الخزانات وتحرّك جبال الذهب.
بعد قراءة الوثيقة، لو أغمض القارئ عينه للحظة واحدة، لن يجد أمامه سوى رؤية واحدة: سيرى بكري واقفاً أمام خزانة ضخمة ببابٍ مغلق وحصون جمّة ليعتدل في وقفته بثقة مطلقة ويقول بنبرة حاسمة كلمتين «المد الشيعي» لتنفتح الأبواب ويغرق الرجل بين أوراق البنكنوت وسبائك الذهب وبراميل النفط.
والآن السؤال الذي يطرح نفسه على كل قارئ للأحداث يحترم عقله ووطنه هو: هل كان استياء السيّد بكري سببه عمالة بعضهم وتقاضيهم أموالاً لتحقيق أجندات خارجية في مصر، أم أنه لم يكن جزءاً من تلك الأجندات ولم يحصل على أموال مثل أولئك الذين يتحدث عنهم؟