في أسوأ زمن عربي - عربي على الإطلاق، زمن التفتيت، والتشرذم والإقتتال، وصعود التيارات الإرهابية المتشددة، زمن سقوط «إسرائيل» كعدو أوحد للعرب... زمن يتحسر فيه كثيرون على جمال عبد الناصر (1918-1970) آخر، أو على الأقل على مشروعه الوحدوي، الجامع، والمانع لأي تدخل خارجي، ها هو الزعيم الراحل يطلّ علينا بعد أكثر من أربعة عقود على وفاته، وإنقلاب الأزمنة وتغيّر التاريخ والجغرافيا العربية.
يأتي ذلك عبر نافذة تلفزيونية وثائقية تحمل عنوان «سلسلة «جمال عبد الناصر- زيارة جديدة» (تنفيذ «غلوبال ميديا غروب» - إنتاج «الميادين») على شاشة «الميادين».
مساء الأحد الماضي، دشّن الجزء الأول «جمال عبد الناصر حسين خليل سلطان»، على أن تتوالى الأجزاء الستة الأخرى تباعاً كل أسبوع. المشروع (إعداد رئيسي واخراج لأسامة الزين)، عملت عليه مجموعة مؤرخين على رأسهم المؤرخ كمال خلف الطويل، بوصفه معداً للمادة التاريخية، وأيضاً ضيفاً أساسياً في هذه السلسلة.

قراءة «نقدية صديقة» تبتعد عن التمجيد والتلميع، وتقف عند إخفاقات الزعيم الراحل

وكما يشي عنوانها «زيارة جديدة»، ستطرق السلسلة باب زمن عبد الناصر، محاولة القيام بزيارات أخرى، تشرّح هذه التجربة، وتغوص في عمقها، وتحاول إسقاطها على الحاضر، وتستشرف المستقبل.
جمال عبد الناصر، الذي حكي وكتب وصورّ عنه الكثير، سيحضر في هذه السلسلة، زعيماً عربياً، مع قراءة «نقدية صديقة» ــ حسب وصف المؤرخ الفلسطيني ـــ تبتعد عن التمجيد والتلميع بشخصية كعبد الناصر. بل إنّها تنهل من تلك الحقبة «راهنية» معنية، يمكن بلورتها مع الوقت، بهدف صناعة مشروع ناصري جديد، يستحضر الماضي، ويحاول تحقيق ما عجز عنه عبد الناصر.
سبعة أجزاء قد لا تكفي «لخدش سطح تجربة عبد الناصر» كما يقول لنا الطويل. لذا، تمت الاستعانة بإضاءات سريعة ومكثفة، مع شهادات وشهود من تلك المرحلة، يحاولون الإحاطة بتلك الحقبة، ويشرّعون أبوابها، على محاور أساسية، شكلت منعطفات في سياسة عبد الناصر. محاور تغطي «الوحدة المصرية -السورية»، التي ستحضر في الجزء الثاني (23 نيسان/ أبريل)، ورسائل الزعيم المصري بضرورة الوحدة العربية، الى علاقة عبد الناصر بالإخوان المسلمين من العام 1952 الى 1970 (الجزء الثاني ــ 23 نيسان)، مروراً بالمحور الأساسي والحيوي الذي ما زال يتحكم في عالمنا، الا وهو الولايات المتحدة الأميركية. صحيح أنّ هذه الزاوية تحتاج الى حلقات عدة، لكنّ معدي هذه السلسلة كثّفوها في حلقة واحدة ستعرض في السابع من أيار (مايو) المقبل بعنوان «عبد الناصر وأميركا». حلقة تضيء على العلاقة المتباينة بين الزعيم العربي وأميركا، وتتفرّع الى عناوين مختلفة، طبعت ذاك الزمن من الصراع بينهما، والتآمر، الى محاولات التدمير، وإنزال العقوبات.
لا شك في أنّ القضية الأساس والمحورية، لا سيما في مرحلتنا الحالية، مع محاولة طمسها، وتغييبها عن الخارطة العربية هي فلسطين... صلب مشروع عبد الناصر، ووجوب مجابهة المحتل المتغطرس: «إسرائيل» التي ــــ كما كان يكرر دوماً ــــ زرعت في قلب الوطن العربي للقضاء على «القومية العربية»، ومنعها من بناء قواها الذاتية الإجتماعية والإقتصادية، وحتى الديبلوماسية. وليست مصر بعيدة عن هذا المخطط الإستعماري، الذي يستهدف البلاد العربية، ويسعى الى تفتيتها، كما كان يردد دوماً. هذا ما سنراه في الجزء السادس (14 أيار/مايو) بعنوان «عبد الناصر وفلسطين». أما الجزء الأخير (21 أيار/مايو)، فسيفتح النقاش أمام ما بعد رحيل جمال عبد الناصر، وتشكيله نقطةً مضيئة في العالم العربي، ونموذجاً مشرقاً في زمن الخنوع والتسويات. ما هو الأثر الذي تركه رحيل الزعيم العربي؟ وما هي أبرز إنجازاته التي ما زالت حاضرة في عالمنا؟ أسئلة تجيب عنها الحلقة الأخيرة من هذه السلسلة الوثائقية.
إذاً، وكما ذكرنا آنفاً، تحاول هذه السلسلة، كسر نمط السرد الكلاسيكي، البيوغرافي في مقاربة شخصية محورية في العالم العربي. تتعداه، الى تشريح لهذه التجربة، وتقديم رؤية نقدية جديدة، تفتح المجال للمرة الأولى على الإضاءة على جوانب مختلفة لم يتم التطرّق اليها قبلاً. يخرج «جمال عبد الناصر - زيارة جديدة» اليوم، بعد جهد امتدّ على مدار عامين في التحضير والتنفيذ، لتعاد سيرة شخصية كانت مثالاً للتحرر من سياسات الإستعمار والتبعية، والتصدّي للهيمنة العالمية التي ما زالت تتحكم في مفاصل حياتنا وتاريخنا الماضي والحاضر على حدّ سواء.
ولعلّ من الأهمية بمكان، الربط بين زمنين، زمن عبد الناصر، وزماننا الحالي. أمر يعتبره المعدّ الاساسي لهذه السلسلة «الأخطر في تاريخ العرب المعاصر». لذا جهد القائمون على هذا العمل، من أجل إهمال كلّي لفكرة الحنين أو النوستالجيا التي طبعت أغلب الأعمال التي تناولت سيرة عبد الناصر سابقاً. أرادوا لعملهم أن يدخل في تشريح تلك الحقبة، التي شكلت ـــ بحسب الطويل ـــ «رسالة الى المستقبل»، من خلال ما سعى اليه عبد الناصر من مشاريع، أبرزها: الوحدة العربية، والتنمية البشرية، والإقتصادية، والعدل الإجتماعي، وعلى رأس هذه المشاريع «العزّة والكرامة» المفقودة اليوم في عالمنا العربي. زمن عبد الناصر الذي يصفه بـ «المرحلة البرزخية»، ما بين ما سعى اليه الزعيم المصري، من تهشيم للإستعمار، وبين ضعف وسائله في أماكن أخرى في صدّه، وغياب الوسائل المتاحة لتحقيق مطامحه في هذا السعي، أبرزها اختلال موازين القوى ووقوفها سداً منيعاً لتحقيق ذلك.
إذاً، يستدعي الوثائقي، الماضي ليربطه بالحاضر، ويقف على تخوم ما سيأتي، ويفكك المرحلة الناصرية، لينهل منها، عناوين ما زالت راهنة، والفشل في تحقيقها كان أحد الأسباب التي أفضت إلى الزمن الذي وصلنا اليه من إنحطاط وشرذمة. ومع التقاط هذه العناوين، التي يحاول العمل تظهيرها على أنها رسائل مستقبلية من عبد الناصر الى الأجيال القادمة، يبرز سؤال حول من سيتولى تحقيق هذا المشروع في المرحلة الحالية أو القادمة. يجيبنا المؤرخ هنا بأنّه يعتقد أن هذا المشروع سيقوم على يد من أسماهم «صنّاع الرأي والفكر»، أي تلك النخبة، المؤثرة على الجمهور، وتترك بصماتها عليه.
وكما ذكرنا آنفاً، تنسج السلسلة، بين طيّاتها مجموعة رسائل نقدية إزاء تجربة عبد الناصر، من ضمنها قلة خبرته في المحيط، ووقوعه في مطبّات عدة.

السلسلة عملت عليها مجموعة مؤرخين على رأسهم الفلسطيني كمال
خلف الطويل
يعدّد لنا الضيف الأساسي في هذه السلسلة، أبرز النقاط النقدية في هذه التجربة كصدامه مع «حزب البعث العربي الإشتراكي»، وإدارته «غير الحكيمة» ليوم إنفصال سوريا عن مصر، وأيضاً صراعه مع «الإخوان المسلمين»، وتركهم يتمددون خارج الأراضي المصرية بدل احتوائهم.
إذاً، عناوين التوحيد، والإستقلال التام عن أي تبعية وتأثير خارجي، لواءان يحملهما هذا العمل التسجيلي. كما يقارب الحياة الشخصية لعبد الناصر، لا من زاوية تلصصية، بل بهدف إبرازها كنموذج لرئيس مصري، يتساوى إجتماعياً وإقتصادياً مع شعبه. وليس غريباً أن يتبدى بعد رحيله، أنه لم يكن يملك قرشاً، بل كان مديوناً أيضاً. لن يظهر أي فرد من أفراد العائلة النواتية للزعيم العربي في هذه السلسلة، وهذا الأمر مقصود، حرص عليه صنّاع العمل. ستتكثف الصور الفوتوغرافية الثابتة والأرشيفية بالأسود والأبيض، والى جانبها فيديوات توثق تلك الحقبة، ومجموعة ضيوف عاصروا عبد الناصر وكانوا شهوداً على ذاك الزمن. ولعلّ أبرز مَن يستهدف هذا العمل هو الأجيال الحالية، التي لم تتعرف إلى جمال عبد الناصر ولم تعرفه. سيقدم اليها سيرة تتفرع منها مفاصل أساسية وحيوية سياسية وإقتصادية وإجتماعية وحتى ديبلوماسية، ومن ضمنها تمتعه بكاريزما لا مثيل لها أبقت جمهوره أسيراً، وجعلته خطيباً وصاحب شخصية مؤثرة وملتصقة بالناس قولاً وفعلاً.

«الجزء الثاني» من سلسلة «جمال عبد الناصر - زيارة جديدة»، بعنوان «عبد الناصر والوحدة المصرية - السورية»: مساء الأحد المقبل ــــ عند الساعة 21:00 على شاشة «الميادين»