فيما بدا خطوة شديدة الرمزيّة، يشهد يوم ٢٤ نيسان (أبريل) الحالي ــ الذي يتزامن مع اليوم العالمي لإحياء ذكرى المذبحة الأرمنيّة ـــ طرح فيلم تيري جورج «الوعد» (١٣٤ دقيقة) في الصالات العالمية.
يقدّم الشريط معالجة دراميّة مؤثرة عن قصّة حب ثلاثيّة تشتعل على خلفيّة أجواء الإبادة الجماعيّة التي تعرّض لها الأرمن (وغيرهم) خلال الحرب العالميّة الأولى على أيدي الأتراك.
جورج، الكاتب والمخرج الإيرلندي الشمالي، تخصّص في تقديم أفلام تصور دراميّاً الحروب الأهليّة والإبادات الجماعية التي نفذها بشر ضد بشر آخرين، لعل أشهرها «فندق رواندا» عن مآسي مذابح ذلك البلد الإفريقي الحزين، و«باسم الأب» عن الصراع الأهلي في إيرلندا الشماليّة. ولذا، عندما يتصدى لمهمة تصوير مأساة الأرمن الجماعيّة في The Promise، فهو الرجل المناسب في المكان المناسب، إذ قدّم ما يمكن اعتباره واحداً من أفضل أعمال الدّراما التاريخيّة في هذا العقد، وأهم عمل قدّمته السينما في تاريخها، يتخذ من تلك الفترة المظلمة من آلام الشرق خلفيّة له.
عرض الفيلم للمرة الأولى في «مهرجان تورنتو السينمائي الدّولي» في أيلول (سبتمبر) الماضي، وحاز وقتها تقديرات متفاوتة من النقاد. ورغم أنّ مجملهم أشاد به لناحية الطّرح التاريخي على الأقل، إلا أنّ جدلاً واسع النطاق اشتعل في الفضاء العام من خلال التصويت على أحد المواقع الإلكترونيّة المتخصصة في الأعمال السينمائيّة IMDB، إذ انقسمت الأصوات بين مجموعتين مستقطبتين أعطت إحداهما الفيلم علامة كاملة (عشر نجوم)، بينما منحته المجموعة الأخرى أسوأ علامة ممكنة (نجمة واحدة)، وهو ما وصفه القائمون على الموقع بأنه تصويت سياسي بامتياز من جمهور لم يشاهد الفيلم بعد.
هذه البداية العاصفة لـ «الوعد»، تشير إلى سياسات الحكومات التركيّة المتعاقبة منذ قيام الجمهوريّة في ١٩٢٣ لغاية اليوم. سياسات ترافقت مع جهد ديبلوماسي مكثّف مع الحليف الأميركي بهدف إنكار تلك المذابح والتعمية على معالم الجريمة النكراء. هذا ما أدى إلى تغييب شبه تام طوال قرن تقريباً، لأي معالجات دراميّة أو حتى وثائقيّة لهذا الموضوع عن الإعلام الجماهيري، واقتصارها على أعمال فرديّة قليلة الميزانيّة وذات مستوى فني متواضع، مقارنة أقّله بالسيّل الذي لا ينقطع من الأفلام الدراميّة والوثائقيّة التي عالجت ثيمة الهولوكوست.

مؤرخون متخصصون أشادوا
بالدقّة التاريخيّة للعمل



يروي الفيلم قصّة مايكل (يلعب دوره أوسكار إيساك) الشاب الأرمني الذي يترك قريته الصغيرة في أرمينيا (التاريخيّة) أثناء الأيام الأخيرة للدولة العثمانيّة ويتوجه إلى إسطنبول لدراسة الطب. تتقاطع أقداره مع كريستوفر (يلعب دوره كريستيان بييل)، الصحافي الأميركي الوسيم الذي أوفدته وكالة الـ «أسوشييتد برس» إلى المدينة، وقد جلب معه صديقته آنا (تلعب دورها شارلوت لو بون) وهي فتاة أرمنيّة الأصل نشأت في باريس. يقع مايكل في حب آنا. بعدما أبادت السلطات العثمانيّة كل سكان قريته واستهدفت الأرمن عبر الشرق من دون تفريق، ينتهي المطاف بآنا ومايكل إلى الهروب إلى الجبال، والانخراط في مقاومة يائسة، قبل التمكن من الهرب إلى الساحل ومن ثم إنقاذهما من قبل سفينة عسكريّة فرنسيّة.
لم يخف تيري جورج خشيته من إمكان تجاهل وسائل الإعلام الجماهيري فيلمه، الذي تجاوزت كلفته الـ١٠٠ مليون دولار أميركي، لا سيما أنّ قرناً من التعمية على المأساة جعلها غير معروفة على نطاق شعبي واسع في المجتمعات الغربيّة. لكن العمل بمجمله يبدو ممتلكاً لكل أدوات النجاح، ليكون نجم موسم الربيع في شباك التذاكر الأميركي: قصّة مليئة بالأحداث المتسارعة، عواطف إنسانيّة عميقة تعصف بقلب المشاهد، أداء فائق الإتقان من ممثلين رائعين رغم ضعف الكيمياء بين العاشقين المفترضين، كاميرا عبقريّة وأزياء وأماكن تصوير مذهلة... كل ذلك على خلفيّة إبادة جماعيّة تاريخيّة تكاد تشبه الأساطير من شدة الآلام التي ألحقتها بشعب جميل نبيل. ربما لن ينجح «الوعد» تجاريّاً كما لو كان فيلم «تايتانيك» جديداً، لكن وإن حدث وفشل في تحقيق أرباح، فإن تيري جورج لا يلام، بل تكون تلك ذائقة جمهور الـ «لا لا لاند» المغيّب فحسب.
وعلى الرّغم من أن تقديم الموضوعة التاريخيّة يتم في هذا الفيلم من خلال رؤية غربيّة أساساً أقحمت عناصر ليست بذات صلة بالكتلة الأساسيّة للحدث الجلل: أميركا (الصحافي كريستوفر) وفرنسا (مكان نشأة آنا ومنقذة الأبطال في النهاية)، إلّا أن الصياغة الكليّة للسرد التاريخي بدت شديدة الواقعيّة. وقد أشاد مؤرخون متخصصون في المذبحة الأرمنيّة بالدّقة التاريخيّة للعمل، واعتبروا أن تيري جورج «لم يسمح لنفسه بكسر الحدث التاريخي لمصلحة القصة الدّرامية، ونجح في تقديم شعور حقيقي بفداحة مأساة هذا الشعب».
وكانت مشاهد الفيلم قد صوّرت في مواقع عدة في إسبانيا والبرتغال ومالطا، فأعطت القصّة مسرحاً شديد القرب من الأجواء المكانيّة لشرق المتوسط، أضاف مصداقيّة أكبر للسّرد التاريخي مع اختيارات موفقة لأزياء المرحلة.
عربيّاً، ليس مؤكداً ما إذا كانت الرّقابة في الدوّل التي يسمح فيها بعرض الأفلام، ستقبل بعرض هذا الشريط المثير للجدل على المستوى السياسي، إذ أن السلطات التركية التي هي حليف وثيق لدول الخليج وإسرائيل والأردن، ستبذل غالباً جهوداً حثيثة لمنعه من العرض العام. كما أن التوازنات الطائفيّة في لبنان قد تتسبب له في مشاكل، لكن «الوعد» تجربّة سينمائيّة شجاعة ورائدة لتيري جورج، ستسهم من دون شك في طرح مأساة الأرمن التاريخيّة في الفضاء الجماهيري العالمي بعد طول تغييب. وربما ستفتح الباب لأعمال ضخمة أخرى تعطي شيئاً من حق متأخر لمأساة ملايين البشر الذين توافقت سياسات الحرب الباردة وتحالفات الإمبراطوريّة على إخفائها وتجاهلها.