نشرت «الأخبار» (السبت، ٢٥ آذار ٢٠١٧) مقالة لأحمد محسن بعنوان «عن «دم الأخوَين»: فواز طرابلسي: ننسى ... أي نتذكّر»، يتناول فيها محسن كتابي «دم الأخوين. العنف في الحروب الأهلية». لم يكن لي أن أعلّق على المقالة لو أن أحمد محسن اكتفى بمراجعة الكتاب، علماً أني أثمّن إيجابية المراجعة.
لكن محسن رأى إلى مقالته على أنها «حديث» أجراه معي. حصل الحديث فعلاً. لكن نقله في مقالة أحمد محسن يستدعي بعض التدقيق والتوضيح بسبب قدر من الاختلاط في النص بين قراءة شخصية، متفاوتة الوضوح والدقة، وحديث عجول أصاب نقله بعض التشوّش.
في موضوع الذاكرة، التقط أحمد محسن ما سعيت له من إقامة علاقة جدلية بين فقدان الذاكرة والتذكر والنسيان. وقد شددتُ على أنه لا يوجد تذكر لا يتضمّن مقداراً من نسيان، وأنّ النسيان ذاته ليس بفراغ ذهني بقدر ما هو عملية استبدال ذاكرة بأخرى، وهو قادر على أن يكون فعلاً إرادياً يميّزه عن فقدان الذاكرة، الرسمي والقسري. على أني أودّ تنفير الخلاصة في حديثي، وفي الكتاب، من وحي تجربة الحروب اللبنانية، وهي إعطاء الأولوية لضرورة تذكر أسباب الحرب ودروسها وأهمية تناسي العنف والمجازر. وذلك على عكس الوهم السائد، والممارس على نطاق واسع، في الأعمال التبشيرية لمنظمات المجتمع المدني، بأن التذكير بالعنف وبالمجازر عاصمٌ عن تكرار الحروب.
إن رد الحرب الأهلية في لبنان إلى العامل الطائفي وحده من قبيل تفسير الماء بعد الجهد بالماء. المطلوب تفسيره هو لماذا تنقلب الصراعات الاجتماعية والسياسية من صراعات سلمية، أو صراعات على النفوذ والقوة، إلى صراعات عنفية مسلّحة، ذات طابع طائفي، علماً أنّ تلك الحروب هي الاستثناء لا القاعدة في حياة الشعوب. قلت في حديثي، كما أوردت في العديد من كتاباتي، إنّ انتقال الصراعات السياسية والاجتماعية إلى مستوى الصراعات العنفية، يستدعيه تضافر الاحتقانات الاجتماعية والطبقية مع أشكال مختلفة من المظلوميات الجمعية (الطائفية) بما يشكل منها خليطاً قابلاً للانفجار، ولكن لا بد أن تتوافر أيضاً وخصوصاً في ذلك التركيب قوتان عسكريتان، أو أكثر، تكسران احتكار الدولة للعنف، ولا بد أخيراً من وجود استعداد لدى أطراف خارجية للتمويل والتسليح والتدخل العسكري. وخلصتُ من حديثي هنا إلى أنّي لست أعتقد أنّ مثل هذه العوامل متوافرة في الأوضاع اللبنانية الراهنة بحيث يمكن توقع انفجار للعنف الأهلي.
لم يرد في حديثي مع أحمد محسن وصف الحرب بأنها «معجزة» بل تحدثت عن معجزات تحصل خلال الحرب. وأما القول «العدو هو أنا» فليس صادراً عني. استشهدت في الكتاب بوليد جنبلاط خلال الحرب الأهلية في قول معبّر «صار العدو داخل كل واحد منا».
بصدد جدارية «غيرنيكا» لبابلو بيكاسو، تساءلت ما إذا ما زالت ترقى إلى مستوى التعبير عن العنف في القرن الواحد والعشرين، وليس القرن العشرين، كما ورد في مقالة محسن. ولم أتطرق للأدب السوري عن الحرب الأهلية في ذلك البلد، بل احتوى الكتاب على قراءتي لمسرحية محمد الماغوط «العصفور الأحدب» المكتوبة في الستينيات بما هي نص استباقي واستشرافي عن العنف الأهلي اللاحق.
أخيراً، رفضتُ قراءة العنف الجهادي قراءة دينية («إسلام متطرف» يكون الجواب عليه هو «إسلام معتدل») ودعوت إلى التفكّر في السؤال: لماذا يلجأ شبّان عرب مسلمون إلى هذا النمط الانتحاري اليائس من الإسلام الجهادي في القرن الواحد والعشرين؟ وشددت على العلاقة بين العنف والدين، ولاحظت أنّ الدين - كل دين - يشكّل أعظم مسوّغ للعنف ومبرّر. وقد أكدت في حديثي، ما كررته في مناسبات عدة، من أنّ الحل العسكري تحت رايات «الحرب الكونية ضد الإرهاب» بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، لن تنجح في «اقتلاع» العنف الجهادي ولا في «اجتثاث» الإرهاب، إن لم تقترن بما أسميته «تجفيف المنابع الاجتماعية» للجهادية والإرهاب: البطالة والفقر والهامشية والمظلوميات الجمعية المتفاوتة والمتبادلة الأدوار، وانعدام الأمل بالمستقبل لدى أوسع قطاع من الشباب العربي.