فصل يومان فقط بين موت رسّام الكاريكاتور ملحم عماد (1939 -2017) وموت رسّام الكاريكاتور الآخر، ستافرو جبرا (1947 -2017 ـــ الأخبار 13/3/2017). لملحم عماد فضل في تعريفي إلى فن رسم الكاريكاتور. أذكر أنّني كنتُ في سنّ التاسعة وكنتُ أحدّق في أحد رسومات ملحم عماد في جريدة «الحياة»، فاستهواني الفن هكذا فجأة.
وبتّ أقلّد على مدى ساعات طويلة رسومات ملحم عماد. لكنني سرعان ما اكتشفتُ أنّ هناك مَن هو أفضل منه في الرسم، فانتقلتُ إلى تقليد رسومات غيره، خصوصاً بيار صادق فقط لأنه كان الأشهر والأبرز.
لكن بعدما تمرّستُ (نسبيّاً) في الرسم (أو في التقليد لأنني بالرغم من تمرّس سنوات استخلصتُ أنّ موهبتي ضعيفة وأنّ المواظبة لا تغني عن موهبة الابتكار والإبداع) فانتقلتُ إلى الاستغراق في رسومات جان مشعلاني، وكان المفضّل عندي. جان مشعلاني كان يملأ العدد الأسبوعي لمجلّة «الصيّاد» (في عزّها) بالرسوم الكاريكاتوريّة السياسيّة والاجتماعيّة، بالإضافة إلى عمله اليومي في «الأنوار». وكان له رسم مميّز للشخصيّات أكثر بكثير من بيار صادق، لكن جمعه مع بيار صادق الإصرار على رسم صورة ريمون إدّة كقرد (وكان ذلك يزعج إدّة بالرغم من صداقته مع بيار الصادق ومساهمته - مع غيره- في الأفكار الصبيانية الساخرة التي كانت رسومات صادق تعجّ بها).
وفجأة ظهر على الساحة ستافرو جبرا. كان أسلوب جبرا مبتكراً وجديداً وكان مُبهراً لأنه اختلف عن كل أساليب الرسم الكاريكاتوري السائدة في العالم العربي. أعجبتُ أنا وصديقي أمثل إسماعيل به، وكنّا نقلّد نمط رسوماته. كان أسلوبه يعتمد على رسم الرأس كبيراً مع خطوط ظلال دقيق وكثيف للوجه، وتعظيم للأنف. لكن طريقة الرسم كانت تظهر الرأس على أنه ثلاثي الأبعاد، وهذه صعبة. طبعاً، لم أكن أعلم في حينه أنّ جبرا كان يقلّد (وبدقّة وبراعة) أسلوب رسم الأميركي ديفيد ليفين، رسّام مجلّة «نيويورك ريفيو أوف بوكس» الذي يُعتبر من أبرع رسّامي الكاريكاتور في أميركا في القرن العشرين.

الرسّامون المؤثّرون مثل
ناجي العلي والسوداني خالد البيه، يعمدون إلى التورية


كان أسلوب جبرا تقليداً للأصل لكنه برع فيه، وإن كانت رسومات الرؤوس أقلّ فرادة من رسوم ليفين. أذكر أنني شاركتُ والصديق أمثل في مباراة للكاريكاتور أجرتها مجلّة «الدبّور» (احتل جبرا صفحاتها عندما انطلق في لبنان وعندما كرّستْ المجلّة مضمونها للسخرية والكاريكاتور) في عام ١٩٧٣. أعددنا عدداً من الرسومات وذهبنا إلى مكتب المجلّة لتقديمها. قابلنا ستافرو جبرا ببرودة شديدة، وكان صلفاً ومتكبّراً معنا. نظر ستافرو إلى الرسومات واحدةً واحدة بضيق، ثم سألَ: ماذا هذه (أعتقد أنّها كانت لسليمان فرنجيّة وكان يقلّب حبّات مسبحته وكانت كل واحدة منها تحمل اسم أزمة، على ما اذكر)؟ قال له أمثل: «تفنيص». قال ستافرو: «إذا «تفنيص» لماذا تأتون بها إلى هنا؟ وكنّا — للعلم — في سنّ الثالثة عشر. لم نفز (فاز في المباراة على ما يذكر أمثل، طلال يحفوفي). قرّرتُ بعدها أنني أفتقر إلى الموهبة وأنني لا أبتكر بل أقلّد، وأن ركن موهبة الرسم، أي الابتكار الخاص، ينقصني.
لكن جبرا أثّر كثيراً في رسم الكاريكاتور في لبنان، وكان ـ مثل جان مشعلاني ــ يجمع بين الرسم الاجتماعي والسياسي، وإن كانت رسوماته السياسيّة خفيفة ومباشرة. والمباشرة في فن الكاريكاتور (مثل رسومات المُبدع — في الرسم — «لَطّوف») يُعتبرُ ضعفاً. الرسّامون المؤثّرون مثل ناجي العلي أو علي فرزات (قبل الحرب السوريّة) والمُبدع الجديد الرسّام السوداني خالد البيه، يعمدون إلى التورية، وإلى رسم ما لا تراه العيْن مباشرة. ورسومات ستافرو الاجتماعيّة كانت متأثّرة برسومات مجلّة «بلاي بوي» في السبعينيات، لكنه جعل من لبنان مسرحاً لها. وكان جبرا غزير الإنتاج جمع بين موهبة الرسم وموهبة التصوير التي مارسها بشغف في سنوات الحرب. لم يكن جبرا — مثله مثل بيار صادق — يخفي انحيازه الانعزالي في أهوائه السياسيّة، لكنه استطاع أن يقطف جمهوراً متنوّعاً بضع الشيء.
قد يكون رسم الكاريكاتور من الرسوم الميّتة، ربما لأنه تَصاحبَ مع فن المجلّات السياسيّة المنقرضة. الـ «واشنطن بوست» لا تزال تفرد رسماً يوميّاً للرسّام الموهوب تولز بعدما كان الصهيوني المباشِر، هيربلوك، يحتل ذلك الموقع الذي غالباً ما استخدمه في ذم العرب والفلسطينيّين بصورة خاصّة. الـ «نيويورك تايمز» تأخذ نفسها على محمل الجد. هي لا تعتمد على رسم الكاريكاتور السياسي اليومي لظنّها أنّ رصانتها المصطنعة تمنعها عنه، لكن صفحتها المكرّسة للفنون كانت تنشر أسبوعيّاً رسماً لآل هيرشفلد الشهير، والذي كان القرّاء يبحثون في طي رسوماته عن اسم ابنته «نينا»، الذي كان يخبّئه في كل رسمة له.
هناك جيل جديد من الرسّامين في العالم العربي. وإنتاج خالد البيه يبشّر بالخير وإن كان حذراً جداً في تناول المواضيع «الحسّاسة» (لا يجب أن تكون هناك مواضيع «حسّاسة» لرسّام الكاريكاتور)، ونقده يتوافق كثيراً مع أهواء أنظمة الخليج. لكن انقراض المجلّة السياسيّة، لا يجب أن يمنع انتشار الرسم الكاريكاتوري في فضاء الانترنت. لكن أنظمة الخليج التي تسيطر على المواقع السياسيّة والإخباريّة العربيّة، لا تحبّذ الرسم الكاريكاتوري لأن ذلك يمكن أن ينال من الذات شبه الإلهية.