طريقٌ طويلٌ ومليء بالتحوّلات ساره كمال يوسف الحاج (1916 ــــ 1976) قبل اغتياله عام 1976. الفيلسوف الإشكالي ــ كما هوية الوطن الذي حمل جنسيته ــ خطّ حياةً فكرية لم تخلُ من التناقضات، على الرغم من المسعى التوفيقي الذي وسم فلسفته.
من عرف الحاج في سنوات شبابه، عرف تأثره بالفلسفة الوجودية، حتى أنه كاد ألا يتعرف إليه في سنواته الأخيرة، حينما تبنّى فلسفةً إيمانية مسيحية أوصلته في مطلع السبعينيات إلى إلقاء المحاضرات الدينية في الكنائس، في الوقت الذي أصبح فيه أيضاً أحد أشهر منظّري المارونية السياسية أو اليمين المسيحي.
هذا ما حدث مع سيدةٍ حضرت قبل أيامٍ ندوةً نظّمها قسم الفلسفة في «جامعة القديس يوسف» في بيروت تناولت أجزاءً من فكر الحاج، حيث قالت إنها تعرفت إلى المفكر في سنوات شبابه، ثم عادت والتقت به قبيل اغتياله في كنيسةٍ في منطقة حمّانا. هناك سألته مصدومةً بعدما أنهى محاضرته: «هل أنت نفسك كمال الحاج؟ أنت الذي حدثتني بشغفٍ في الوجودية منذ عشرين عاماً؟»، فما كان منه إلا أن أجابها ساخراً: «بعدِك هونيك»؟
لم يختَر الحاج التيار الوجودي المسيحي إلى جانب سورن كيركيغارد أو كارل ياسبرز، بل فضّل العمل تحت عباءة الفلسفة الإيمانية المسيحية، ما جعل البعض يصنّفه أقرب إلى أفكار أغسطينوس وتوما الأكويني في القرون الوسطى، خصوصاً أنه حاول أن يجعل من المسيحية ديناً ودولة مثل الإسلام، كما أنه رأى الجانب الديني في كل القضايا، حتى أنه اعتبر قضية فلسطين قضيةً دينية في المقام الأول.

فضّل العمل تحت عباءة
الفلسفة الإيمانية المسيحية


وإلى جانب «العودة» إلى المسيحية إن جاز التعبير، اختار الحاج في لحظةٍ معيّنة من حياته الالتزام السياسي التام، والتنظير لطرحٍ هويّاتيّ جعله منغمساً في الانقسام الأيديولوجي الذي لعب دوراً أساسياً في تفجير الحرب الأهلية عام 1975. بالنسبة إلى الحاج «فيلسوف لا يتسيّس هو فيلسوف معقّد»، كذلك هو صاحب مقولة «لو تمكن اليمين من تتويج السياسية اللبنانية بالفلسفة اللبنانية، لتغلب على اليسار ورماه في البحر».
هذا العام، تحتفل الأكاديميا اللبنانية بمئوية ولادة الحاج. تشهد الجامعات في لبنان وأخرى في الخارج، مثل جامعات في تونس، ندوات ومحاضرات تتناول المسار الفلسفي للحاج، مع تركيز غالبية المواعيد على «القومية اللبنانية» التي اشتهر بها، لا بل يمكن القول إن حياته اختُزلت بهذا الطرح الذي غذّى (ولا يزال) سردية طرفٍ معيّن عشية الحرب الأهلية وخلالها. لكن الحاج لم يعش كثيراً بعد اندلاع تلك «الجولة» من الاقتتال الأهلي ليرى إلى أين وصل الأمر بالجبهة التي حاربت تحت راية هذا الفكر.
ولكن كيف وصل الحاج إلى المرحلة التي أصبح فيها أحد أعلام القومية اللبنانية؟ وما علاقة الفلسفة بهذا المآل؟
منذ تعريبه مؤلف هنري برغسون (الذي يُعتبر أستاذه الأول) «رسالة في معطيات الوجدان البديهية»، برز مشروع الحاج الفلسفي الذي يُلخّص بـ «تعادلية الجوهر والوجود». عالج هذه الإشكالية في مؤلفه «الجوهر والوجود» (1958). بالنسبة إلى الفيلسوف، يشكّل الأول والثاني قطبين متلازمين، أي أنه لا يمكن مطلقاً الحصول على جوهر بلا وجود أو على وجود بلا جوهر. ويوضح أستاذ الفلسفة في «جامعة القديس يوسف»، شربل العم، أن علاقة هذين القطبين عند الحاج، ليست ساكنة بل دينامية في الأساس، من دون أن يتحول اتحاد الجوهر والوجود إلى انصهار.
لكن ما علاقة ذلك بفهوم القومية عنده؟ «عرّف الحاج كل من الجوهر والوجود عبر هذا المثل: الإنسانية هي الجوهر، هي مبدأ كوني لأنه يحيط كل الأفراد»، يقول العم الذي يشرح خلال الندوة الجامعية نفسها، أن الإنسانية كجوهر هي أمر غير قابل للتغيير لأنه فوق الزمان والمكان. أما الوجود الذي هو حقيقة متغيرة، محددة، تاريخية وفانية، فيمكن أن تُترجم بالفرد المحدد بالزمان والمكان. هنا، نكون قد انتقلنا من العام إلى الخاص، تماماً كما يتم الانتقال من الإنسانية إلى القومية.
فمثلما خرج الجوهر الإلهي وتجسّد عبر تعددية المخلوقات (الوجود)، ومثلما تخرج الفكرة وتتجسّد بالكلمة (ومثلما «تجسّد الله بالمسيح»)، هكذا تتجسد الإنسانية بالقومية. من هذا المنطلق، يقول الأكاديمي، ناصيف قزي، إنه يمكن تسمية فلسفة الحاج بـ «فلسفة التجسد»، فالجوهر والوجود يعنيان الشيء نفسه، إنما «في هنيهتين مختلفتين»، أي «مثل تناغم اللاهوت والناسوت في شخص المسيح». وعلى هذا المنهج التوفيقي، رأى الحاج أن لبنان لا يمكن أن يكون مسيحياً ولا مسلماً، بل هو الاثنين معاً. بشكلٍ صادم ربما، امتدح الحاج الطائفية التي كانت بالنسبة له، «وجود الدين الذي هو جوهر»، أي أن الدين يتجسّد بالطائفية أيضاً. من هنا كان مصطلح «النصلامية» (النصرانية والاسلامية). هذا الطرح تكرّس في كتابه «فلسفة الميثاق الوطني أو الطائفية البناءة»، وفيه قدّم المبرر الفلسفي للقومية اللبنانية، ما أثار في حينه ردود فعل غاضبة في الأوساط الثقافية ضد الحاج.
وليس بعيداً عن هذه التعادلية، نجد نظريتين في اللغة عند الحاج، ظهرتا في مؤلفه «فلسفة اللغة» (1956). النظرية الأولى متأثرة بالبرغسونية، ترى الفكرة أو الكلمة «انعكاساً لحقيقة ميتة»، أي أن الكلمة ليست سوى «مومياء» مستخدَمة كيفما اتفق، لأن التعبير «هو مجرّد نسخة جامدة عن الحركة». هذا ما أوضحه الرئيس السابق لقسم الفلسفة في «جامعة القديس يوسف» والاستاذ المحاضر، جاد حاتم، في الندوة المذكورة. يتابع حاتم أن النظرية الثانية في اللغة لدى الحاج كانت تلك التي تعتبر اللغة استمرارية بين المُعاش وبين القول، والوسيط التي يسمح بأن يُعبَّر عن المُعاش في القول. إلا أن خلاصة الحاج، أو «الحل الوسط» بين النظرتين، كان في «الما بين» الموجود بين الفكرة والكلمة، أي بين التحفظ والانعتاق. فالحياة تكمن في هذا «الما بين»، بحسب الحاج. بالنسبة له، يقول حاتم، إن فقر اللغة يأتي من فقر أنطولوجي في الأساس (كينوني)، هو فقر الوعي لذاته، الوعي الذي لا يقدر على سبر أغوار الذات ولا المطلق.
وبالحديث عن اللغة، من التناقضات التي يمكن الإشارة إليها في فلسفة الحاج، إعلاؤه شأن اللغة العربية وتعصبه لها، حتى أنه استقال من عمله في تدريس الفلسفة في معهد الآداب العليا الفرنسية في بيروت احتجاجاً على التدريس بغير العربية، قبل أن يصبح أحد رموز حركة سياسية تبنّت ما أسمته «لغةً لبنانية» في سياق عدائها للعروبة.
كذلك، قد تجد له كتابات حول فلسطين يعتبر فيها القضية الفلسطينية «ضمير العالم»، والصهيونية «سمّاً» وأنها عقيدة «ارتكبت خطأ فلسفياً في نظرتها الى علاقة الوجود بالجوهر، لأنها ربطت الجوهر الواحد بوجود واحد هو وجوده»، ومن هذا المنطلق، لم يفرّق بين الصهيونية واليهودية، مثلما هو الحال في العقيدة السورية القومية الاجتماعية. وهو بالمناسبة كان متأثراً بمدرحية أنطون سعادة. وقد تلاقى مع القوميين الاجتماعيين بالنظرة إلى المسيح الذي هو «يهودي الهوية لكن كنعاني النشأة والدعوة»، فالمسيح لدى الحاج، إلى جانب كونه «الإله المتأنسن»، هو «عكس التعادلية التوافقية لذلك يأتي في الخط الكنعاني الفينيقي».




الندوات المقبلة

◄ الفكر اللغوي عند كمال يوسف الحاج ـ الجامعة اللبنانية الأميركية ـ اليوم الساعة الرابعة مساءً
◄ بين الفلسفة والقومية: قراءات في مؤلفات كمال يوسف الحاج ـ جامعة البلمند ـ 6 نيسان (أبريل)
◄ كمال الحاج الشخص والمسار ـ الجامعة اللبنانية ـ 29 نيسان
◄ كمال الحاج والتيارات الفلسفية الفرنسية ـ الحركة الثقافية (أنطلياس) ـ 17 أيار (مايو)
◄ المسار القومي في لبنان وفلسفة كمال الحاج ـ اتحاد الكتّاب اللبنانيين ـ 31 أيار
◄ فلسفة كمال الحاج القومية ـ جامعة الروح القدس الكسليك ـ 17 تشرين الثاني (نوفمبر)