قد يكون السرّ في هواء حلب الجاف الّذي يستطيع امتصاص رطوبة بيروت، فيجعل منها مدينةً للسمّيعة، أسوةً بطرابلس الأقرب إلى حلب في ميزة السمع بالنسبة إلى الحلبيين. عندما يزور فنانٌ حلبيٌّ العاصمة اللبنانية ويجود بالغناء في منتهى السلاسة، يكون الامتحان لبيروت نفسها، لسمّيعتها ولجمهورها الّذي يعرف قدود حلب وموشّحاتها وأدوارها، بينما تغيب عنه أسماء الكثير من مغنّيها اليوم.
ومن هذه الأسماء اللامعة التي كانت غائبة عن بيروت، صفوان عابد الذي بدأ الجمهور البيروتيّ بالتعرّف إليه الشهر الماضي في حفلته الأولى في «مترو المدينة» (الحمرا ــ بيروت) حيث أمتع السمّيعة، وإن كان معظمهم من حلب، خلال ساعتين وأكثر من الزمن. لا شكّ في أنّ ولَع الجمهور ليلتها ومطالباته اللامتناهية بالإعادة وتعليقاته وتطييباته، أدّوا إلى استضافة الفنان الحلبيّ مجدّداً في حفلة ثانية مساء الأربعاء 22 شباط (فبراير)، وقد يليها حفلات أخرى في لبنان.
ولكن لنعد إلى تلك الليلة، في مطلع شهر كانون الثاني (يناير) 2017، ولنتوقّف عند تفاصيلها. اعتلت الفرقة الحلبيّة مسرح المترو، وهي جزء من فرقة صفوان عابد التي تضمّ عادةً نحو عشرين شخصاً بين ردّيد وعازف (ناي: محمد خير نحاس، قانون: محمد نحاس، عود: بشار الحسن، كمان: علي عساني، طبله: أنور لبناني، رق: حسان نحاس). عزفت الفرقة مقدّمة موسيقيّة أرست المقام الذي اختاره المغنّي قبل الحفلة بدقائق (وسنتكلّم لاحقاً عن اختيار المقام)، فمهّدت لإطلالة الفنّان أمام الجمهور في وصلته الأولى. ثمّ في اللحظة المناسبة، اجتاح صفوان عابد المسرح كمن اختار توقيت معركته وأعلن انطلاقتها. لم يغنِّ مباشرةً، بل ابتسم أوّلاً. بحركة يديه ورقصه وابتساماته المتكرّرة وتوزيعها على الجمهور وعلى الفرقة وإيحاءاته وتنهّده وحلّ أزرار بزّته... اختار عابد للجمهور متى يبكي ويضحك، ومتى يصفّق، ومتى يطالب بالإعادة. وكما اختار تقاسيم فرقته وإيقاعها، اختار للجمهور مزاجه. أخبرَ جمهوره أنّه ليس ذاهباً إلى حلب، كما يشير عنوان العرض «يا رايحين عَ حلب»، ليس إلى تلك الحلب التي بكَوها ورثَوها. بل أتى بحلبٍ تعنيه ويعرفها جيّداً إلى الجمهور، حلب التي لا تتعب كما قيل في المدن العظيمة: «زمانها مغاير لتفسيرنا للزمن».
يُقال إنّ أهل حلب ينقسمون بين عازفٍ ومطربٍ وسمّيعٍ في كلّ بيتٍ وعائلة. ويُقال إنّ الوصلة الحلبيّة تمتدّ لساعات، فالمغنّي يحتاج إلى الغناء مدّةً كي يجوهر صوته ويسلطن وكي يبدأ السمّيع بالانطراب. ويُقال إنّ المغنّي المتقِن هو الذي يعرف تحديد المقام بحسب الوقت والطاقة. فقد تكون الفرقة قد حضّرت الوصلة على مقامٍ معيّن وتدرّبت عليه، لكن عند العرض ووصول الجمهور، يصير الوقت مناسباً لمقامٍ آخرَ... فيتمّ تغيير المقام. وهنا تكمن أهميّة تجانس الفرقة في الوصلة الحلبيّة، كما يقول صفوان عابد إنّ على المغنّي والفرقة أن يتخاويا ويكون المغنّي جزءاً من فرقته. هم يتعلّمونه مع الوقت والعمل معه وهو يصبح أكثر قدرةً على الأداء معهم وعلى مبادلتهم الطاقة. لهذا، تمتدّ الوصلة الحلبيّة لساعاتٍ طويلة، فلا الجمهور الحلبيّ يقبل المغادرة قبل الوصول الى حالة الانطراب المرجوّة، ولا المغنّي والفرقة يستطيعان التوقّف عن العزف والغناء حتى يسلطنا. إنّها حالة عامّة في حلب تتشابه بين المغنّين والعازفين والمنشدين.

قدود وموشحات مع فرقة
تتألف من ناي وقانون وعود وكمان وطبله ورقّ


بدأ صفوان عابد الغناء في عمر السادسة في حلب حيث تربّى على أيدي وأصوات كبار مشايخ الزوايا الصوفية والدينية كالشيخ عبد القادر حجّار والشيخ عبد الرحمن مدلّل. في السبعينيات، اتّجه من الزاوية الدينية إلى الغناء مع الموسيقى، وهو أمرٌ طبيعيّ وتلقائيّ في حلب حيث يمتزج الغناء الدينيّ مع الغناء الدنيوي في المناسبات كافة. من هنا نجد القدود والموشّحات والقصائد تصف من خلال اللحن نفسه كلاماً روحانيّاً حيناً، وغزلاً وإباحية مبطّنة أحياناً. كذلك، تأثّر صفوان عابد بأحد أهمّ منشدي حلب أي الشيخ بكري الكردي الذّي يُعتقد أنّه أدخل قالب الدور الذي بدأ في الوصلة المصريّة، إلى الوصلة الحلبيّة فلحّن أوّل دور حلبيّ «قلبي مال للجمال» على مقام العجم. كما تأثّر بالمطربَين الراحلَين الشهيرَين محمد خيري ومصطفى حامد. وعاشر المطرب القدير صباح فخري وتعلّم منه، فيصفه بـ «قلعة حلب الثانية». تعلّم صفوان عابد أيضاً الفتلة المولويّة التي يتقنها دراويش حلب، فيستعملها خلال أدائه على المسرح من أجل الاتصال الروحانيّ والسلطنة.
ما يميّز التقليد الموسيقيّ الحلبيّ هو شكل انتقاله بين الأجيال. فكما تعلّم صفوان عابد أصول الغناء والتجويد واللفظ وحفظ القصائد والأدوار والموشّحات والقدود وتمرّن على أسس الارتجال والليالي والمواويل من أكبر المشايخ وأهم المطربين، يقوم اليوم بدوره في نقل هذا التقليد. خلال التدريبات والجلسات الدائمة، يجتمع مغنّون وعازفون شباب مع المغنّي والفرقة المخضرمين، فيتعلّمون منهم بالتفاعل والمشاركة في أداء الوصلات. وهذا ما يسمّيه صفوان عابد «دور حراس التراث» الّذين عليهم نقل ما يتقنوه وعدم التكتّم على أسرار الوصلة والتقليد الحلبيّ بحيث يتمّ الحفاظ على هذا التقليد من الضياع والاندثار. وإذا سُئِلَ صفوان عابد عن وضع هذا الإرث اليوم، يجزم بأنّ الفنّ الحلبيّ أصيل ومتين كالحضارة السورية تماماً، فلا يمكن أن يزول مهما تهدّم الحجر وتغيّرت الأنفس.
ربّما كان السرّ فعلاً في هواء حلب ولعلّه في ترابها ومياهها أيضاً... وربّما لن يُباح سرّ حلب أبداً. ولكن بيروت على موعد غداً مع مغنٍّ أصيلٍ تلفّه الروح الحلبيّة. فإن أراد الارتجال ارتجَل، وإن سلطن على غير مقامٍ انتقل منه إلى غيره بسهولة النفس، وعاد الى المقام الأصليّ كأن شيئاً لم يكن. وإن أراد الاتصال الروحيّ، فعلها لنصف ساعة من دون توقّف ثم تابع غناءه، وإن أراد سماع أغنية يشتاقها، غنّاها بإتقانٍ مباشرةً من دون تحضير. وإذا قام الجمهور بطلب أغنيةٍ لا يريد غناءها، ابتسم وقام بارتجال آخر. أمّا إذا نظر إلى ساعته على المسرح، فيكون فقط يحنّ الى الساعات الطوال في ليالي حلب وربّما يشكو قليلاً قصر حفلات بيروت على مساحة صوته. بيروت على موعدٍ مع حلبٍ تأتيها على صوتٍ من ذهب فهل تنجح في امتحان السمع؟

* «يا رايحين عَ حلب» لصفوان عابد: 21:30 مساء الغد ـــ «مترو المدينة» (الحمرا ــ بيروت). للاستعلام: 76/309363