ما هو الجديد في السينما؟ الإجابة بالتأكيد ليست الصور، فالصور هي جزء من المخيلة الإنسانية التي حركت الآداب الأقدم كالرواية، والشعر. تحوُّل خيال الفنان إلى صور حية هو مكون أساسي في السينما ولكنه ليس جزءاً جديداً، وفي هذا المجال يمكن للسينما أن تهزم بسهولة أمام أعمال روائية عديدة.
على سبيل المثال، من المستحيل للسينما أن تنتج الصور الموجودة في رواية كـ «مئة عام من العزلة». الجديد في السينما هو العكس: قدرتها على تحويل الصورة إلى لغة، تحويل الصورة إلى معانٍ تستحيل كتابتها.
لذلك، فإن الإبداع السينمائي لم يكن إطلاقاً في إنتاج الصور، أي في تحويل الخيال إلى صور أمام الجمهور (أن نرى سوبرمان يطير أمامنا فعلاً، أو أن ننخرط في إثارة حروب العصابات، تلك الأشياء التي لا وجود لها إلا في خيالنا، أن نراها وكأنها حقيقة)، إنما في إنتاج المعاني من الصور. هذا التحويل للصور إلى معان وكلمات، هو الأساس الذي يجعل السينما فناً نظرياً أولاً. السينما هي نظرية التعبير بالصور. خذ مثلاً المخرج كريستوف كيشلوفسكي. ما جعل من اسمه حدثاً أصيلاً في تاريخ السينما، لم يكن قدرته على تخيل أشياء غريبة وقصص مميزة، بل نظرياته السينمائية التي فتح عبرها وسائل تعبير جديدة لم تكن موجودة من قبل. الأمر نفسه بالنسبة إلى سيرغي آيزنشتاين، الذي حول المونتاج السينمائي إلى وسيلة تعبير أيضاً. يمكننا أن نتذكر فيلم «بكائية حلم» Requiem For a Dream لدارن أرونوفسكي كمثال للقدرة التعبيرية غير النهائية للمونتاج. استعمل الفيلم المشاهد القصيرة جداً التي تسيطر على الفيلم من أوله الى آخره، ليقول لنا عبارة واحدة: هذا هو القلق الذي تشعر به ولا تستطيع أن تعبر عنه، القلق الذي يرافق وجودك نفسه ومنذ البداية.
أما بالنسبة إلى كيشلوفسكي، فيكفي أن نتذكر كيف اخترع عبقري السينما البولندية السواد كوسيلة للتعبير عن الحميمية (intersubjectivity) في الجزء الأوّل من ثلاثية الألوان. في الفيلم «أزرق» (Blue)، يتكرّر مشهد تداخل ذاتية البطلة مع أشخاص آخرين، أصدقاء، حبيب، وحتى أعداء. ما قام به كيشلوفسكي هو إطفاء الصورة وتحويلها إلى سواد مع إدخال مقطع قصير لموسيقى حادّة. التدخل الذي يظهر في لحظة تحول العلاقة بين شخصين من علاقة عادية لعلاقة حميمة، ثم يعود المشهد للمواصلة كأن شيئاً لم يحدث، لكن الآن سوف تحلق هذه السحابة الجديدة فوق المشهد كشيء حاضر مخفي في نفس الوقت. ما نعجز في العادة عن التعبير عنه، تلك اللحظة التي يدخل فيها أحدهم لحياتنا، فيتحول من شخص عادي إلى شخص مهم، عبّر عنها كيشلوفسكي عبر الصورة السينمائية.
لفيلم «لا لا لاند» (2016) لداميان شازيل، عدد من الجوانب الرائعة: أولاً، هناك شغف جميل بالموسيقى. لا يستطيع الواحد إلا أن يعترف بأن المشهد الذي شرح فيه سيباستيان (راين غوسلينغ) لميا (إيما ستون) موسيقى الجاز، هو مشهد مذهل بكل ما للكلمة من معنى، لأن الصور التي رافقت كلمات سيباستيان تمكنت فعلاً من تحويل الموسيقى إلى شيء جديد.

ما يجعل هذه النهاية
رائعة هو تحديداً هذا الشعور من عدم السعادة
شخصياً لا أحب موسيقى الجاز أبداً، إلا أن الطريقة التي تم بها تصوير الفرقة وهي تعزف، قد أضافت فعلاً شيئاً جديداً للموسيقى؛ حوّلت الموسيقى الموجودة سلفاً إلى موسيقى جديدة. هنا نعود مرة أخرى إلى فكرة أن الواقع المادي نفسه هو شيء غير مكتمل، المادة هي ليست تلك المادة الصلبة الموجودة في الخارج، بل هي نتاج اختلاط الواقع بفكرتنا عن الواقع. موقفنا من موسيقى الجاز، هو ليس موقفنا من موسيقى الجاز في نفسها، بل هو موقفنا منها مختلطة مع فكرتنا عن موسيقى الجاز. بهذا المنطق، فإن فرصة تغيير الواقع تكمن أساساً في فرصة تغييره رمزياً: تغيّر تصورنا للواقع، عبر ذلك نحن ننتج واقعاً جديداً من نفس المادة الخام. وهذا بالتحديد ما قام به سيباستيان عندما «أقنع» ميا أنها يمكن أن تسمع موسيقى جاز مختلفة إن أرادت! لكن، وبالعودة إلى المقدمة، فإن أكثر مشاهد «لا لا لاند» جمالاً كان مشهد أداء سيباستيان وميا لأغنية في إحدى هضاب سان فرانسيسكو ابتداء بالمكان مروراً بالألوان الزاهية وانتهاء بحقيقة أن الفيلم ينتمي إلى أفلام الكوميديا الرومانسية. كل شيء في «لا لا لاند»، يشير إلى أن الفيلم يحاول أن يصنع شيئاً ما داخل إطار من البساطة المبهجة. العلاقة التي ستجمع بين سيباستيان وميا ستنتج عن لقاء عادي، وستعبر بشكل بسيط إلى النجاح بينما ستفشل كل دراما (عندما أعجبت ميا بصورة رومانسية تقليدية بموسيقى سيباستيان، تجاهلها سيباستيان، وتحول المشهد إلى مشهد كوميدي). وبالفعل، هذا هو الجانب غير العادي لحياتنا العادية، الحب، شيء غير عادي، يحدث في حياتنا العادية وفي جوف عاديتها وبساطتها بلا أي دراما، ذلك لأن الحياة العادية نفسها لها «قالب من الخيال» بتعبيرات جاك لاكان. الآن، كيف سيستطيع الفيلم أن يقفز من العلاقة العادية بين سيباستيان وميا إلى الحب؟ في الواقع، يحدث ذلك داخل قالب من الشد والجذب، داخل قالب «تفاوضي»، «سياسي»، إن شئت، قالب من التعامل الطبيعي، التلقائي، والرومانسي الخيالي في الوقت نفسه. ولأن هذه الحالة هي حالة لا يمكن التعبير عنها بصورة مباشرة في فيلم (ربما يمكن وصفها مباشرة في رواية، الوصف الذي سيكون عادياً في الغالب ولن يثير دهشتنا)، كان لا بد للفيلم من اختراع لغة جديدة عبر الصورة والموسيقى والأداء: تبحث ميا عن سيارتها، ويرافقها سيباستيان، يوصلهما المسير إلى تلة تشرف كأنها خشبة مسرح على منظر المدينة والليل، يبدأ سيباستيان بالغناء والتذمر من أن هذه الليلة الجميلة ستذهب هباء. تجلس ميا وتبدل حذاءها ذا الكعب العالي بحذاء عادي. يجلس هو بجانبها، وفي هذه اللحظة يبدأ الاثنان في أداء الرقصة التي هي عبارة عن حالة شد وجذب متكررة. في آخر الرقصة، يقترب الاثنان كأنهما سيقبلان بعضهما، إلا أن هاتف ميا يرن. هكذا لا توصل اللغة السينمائية فكرة التحول من العادية إلى الحب، فكرة نمو الحب كحدث داخل التفاهة العادية فحسب، بل كذلك توصل فكرة السعادة التي ترافق ذلك، السعادة التي يعجز العشاق، كما هو معروف، عن «التعبير» عنها. ولكن ولأن هذا الجانب البسيط من الحياة، الجانب الذي يبدو في متناول الجميع إذا ما قورن بالأمور الأكثر صعوبة كـ «النجاح» و«تحقيق الذات»، وغيرهما من الأحلام التي باتت تطرح كأهداف عليا للحياة. ولأنه جانب أصبح ــ مع ذلك ــ نادراً جداً، فإن قصة الفيلم هي عن فشل هذه المحاولة، كما يمكن لأي شخص أن يتوقع. هذه الحالة البسيطة (وقوع شخصين في الحب بلا أي دراما ولا أسباب ولا فوائد واضحة) هي حالة «صادمة» للمشاهد تحديداً لأنها حالة مذهلة، تلمس رغبة أصيلة لدى المشاهد، ومستحيلة في الوقت نفسه. تتبع خطوات الواقع في «لا لا لاند» استمر إلى النهاية: عندما يحاول البطلان الارتباط بناء على الحب، يفشل ذلك تماماً. أحلامهما الفردية تقف أمام الحب وتحوّله إلى شيء مستحيل. وعندما ينفصلان يبدأ كل واحد منهما في تحقيق أحلامه، في تحقيق «ذاته»، ثم تنجح العلاقة التي تنشأ بين ميا وزوجها الذي من الواضح أنها لا تحبه، لكن من الواضح أيضاً أنها معه تحافظ على ذاتها ونجاحها. في هذه الأثناء، يبقى الحب بكامل قوته، لكن كشيء خيالي، كـ «احتمالية»، كشيء لا بد له من أن يبقى في إطار «الممكن» من دون أن يتحقق. سيصنع سيباستيان في نهاية الفيلم، عبر موسيقاه، تصوراً بديلاً خيالياً للحياة كان فيه الحب ممكناً، ذلك «الممكن» الخيالي الذي هو جزء من حياتنا، هو الأساس الذي نقف عليه. ما يبدو للنظرة البسيطة أمراً سهلاً (صناعة أسرة سعيدة، الوقوع في حب فتاة عادية وتزوجها)، وما يبدو لأول وهلة أمراً يقارب المستحيل (صناعة مسيرة فنية مميزة) هما في الحقيقة أمران متعاكسان. في عالم اليوم، يمكن للإنسان أن يفعل أي شيء (أتكلم من داخل الأيديولوجيا المهيمنة بالطبع) ما دام محافظاً على انفصاله كفرد عن أي التزام رمزي. وفي الوقت نفسه، يبدو كل التزام رمزي أمراً مستحيلاً. يمكن للفرد أن يصبح مشهوراً وناجحاً، أن يجني الكثير من الأموال، بشرط ألا يقع في الحب (أو بصورة عامة، أن لا يلتزم بقضية أو بشغف معين، لأن هذا الالتزام هو بالتعريف التزام خارج منطق السوق). لكن كل ذلك لا يجعل من فكرة «الممكن»، التي نجح الفيلم في إثبات أنه جزء من الواقع، فكرة ثانوية على الإطلاق. هذه النهاية التي هي نهاية واقعية جداً، هي نهاية غير سعيدة. أليس ذلك أفضل من أن تكون النهاية سعيدة وغير واقعية؟ في الحقيقة إن ما يجعل هذه النهاية رائعة هو تحديداً هذا الشعور من عدم السعادة الذي سنشعر به. نحن نعلم في دواخلنا أن الحقيقة هي أن الحياة التي يراد لنا أن نعيشها، كأفراد بعيداً عن المعنى، هي حياة غير سعيدة، على الرغم من أنها تقدم لنا مرفقة بشعارها الليبرالي الجميل «الحياة، الحرية، والبحث عن السعادة»، الجملة المثيرة للسخرية التي تزين مقدمة الدستور الأميركي.
* كاتب من السودان