أخيراً، انطلقت النسخة الثانية من مهرجان «مدن موسم» في بلجيكا. بيروت هي محور المهرجان، التي اختار المنظمون الاحتفال بفنونها المعاصرة. المهرجان الفني الثقافي الذي تنظمه «مؤسسة موسم» في بلجيكا، هو استكمال لأنشطتها منذ عام 2001 بهدف التعريف بالثقافة المغربية.
لكن الانطلاق من أحضان الجالية المغربية هناك، ما لبث أن اجتازت أنشطته الحدود «لتطال الدول العربية الأخرى محلياً أو في المهجر»، وفق مؤسّس «موسم» ومديره، محمد أقوبعان، الذي يقول إن المؤسسة تهدف إلى «محاربة الأحكام النمطية والاستشراقية التي يعانيها المواطن العربي في المخيلة الأوروبية».
هكذا تنظم المؤسسة أعمالاً فنية، وتدعم الفنانين، وتنظم اللقاءات الأدبية والأمسيات الموسيقية وغيرها من المهرجانات التي كان آخرها «مدن موسم» العام الماضي مع مدينة تونس. اختارت «موسم» الفنانين وأعمالهم مدخلاً لاستكشاف المدن. هذه السنة، دعت أكثر من 25 فنانة وفناناً لبنانياً لتقديم عروضهم في أماكن وفضاءات مختلفة في بلجيكا حتى 18 شباط (فبراير) الحالي. وبحسب أقوبعان، فإن اختيار العاصمة اللبنانية يأتي لسببين أساسيين: الأول يتعلّق بماضي بيروت، وبدورها التاريخي والأساسي في المشهد الثقافي العربي. دور ورثه فنانو بيروت المعاصرون، الذين استطاعوا ــ رغم الشروخ التي أحدثتها الحرب الأهلية مع جيل الخمسينيات والستينيات ــ أن يحافظوا على حيوية الفعاليات الثقافية والفنية المعاصرة والمستقلة. هذا ما دفع القائمين على المهرجان إلى التعريف ببيروت من خلال فنانيها، والجمع بين أجيالها المختلفة.
بعد سنوات من تتبع الحركة الثقافية والفنية في بيروت، دعت المؤسسة عروضاً ووجوهاً فنية تحتلّ الساحة الثقافية في المدينة في السنوات الأخيرة، أبرزها تلك التي تستكشف إشكاليات مدينية متعلّقة ببيروت نفسها عبر السينما، والتجهيزات الفنية، والمحاضرات، واللقاءات والمسرح والموسيقى والفيديو والفنون البصرية. قبل أيام، انتقلت المنصة الفنية اللبنانية إلى بلجيكا ضمن «مدن موسم: بيروت». هناك، سيتعرّف الجمهور العربي والأجنبي إلى نتاجات المدينة. الافتتاح كان مع الفنان اللبناني رأفت مجذوب الذي قدّم لمدينة بيروت من خلال نص كتبه. عرض رأفت بعض مشاريعه وتجهيزاته الفنية الثابتة والمتحركة داخل الفضاء المديني العام، مثل «ألو، شايفني؟» (2015)، وتجهيزه «نافورة الأمنيات ــ مال عام» (2014). أما مشروعه الحي لكتابة رواية The Perfumed Garden، فدفعه إلى التنقل بين مدن عربية عدّة والتقاء ناسها من بيروت ومصر وعمّان وغيرها. إلى جانب المحاضرة في «موسم المدن»، تضمّن مشروعه تجهيز «مدخل إلى بيروت 1» في «غاليري رافينشتاين»، وهو عبارة عن الغرفة الثانية من فندق «خان» المتنقّلة، بعدما نصب الغرفة الأولى في «معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا» في «كامبريدج» في أميركا. في «غاليري رافينشتاين» أيضاً، تعرض أعمال المصمم والفنان اللبناني حاتم إمام التي خرجت بعد إقامة فنية دعته إليها «موسم». أحد مؤسسي «مجلة السمندل»، عمل في التصميم والرسم والطباعة والنقش، لتأتي النتيجة أعمالاً تراوح بين الواقعية والتجريد. كذلك هي مطبوعاته «مشاهد لامتناهية» التي ستعرض حتى نهاية المهرجان، حيث تحاول استكشاف العلاقة بين الناظر والمنظور إليه من خلال أعمال صنعت من النقش والتنقيط.

25 فنانة وفناناً لبنانياً
يقدّمون مقاربات مدينية متنوعة ومختلفة لبيروت

من الفنون البصرية إلى الفن السابع، ينتقل المهرجان حيث يعرض فيلم «ربيع» (8/2) لفاتشي بولغورجيان الذي عرض ضمن «أسبوع النقاد» في «مهرجان كان السينمائي» العام الماضي. باكورته الروائية التي تعدّ أبرز النتاجات السينمائية اللبنانية أخيراً، تحوم حول إشكاليات الحرب الأهلية وما تلاها، إذ يعاين فقدان الهوية والانتماء الضائع من وجهة نظر الموسيقي الضرير ربيع. يدعو المهرجان أيضاً المخرج اللبناني غسان سلهب الذي تحضر مناخاته التجريبية (11/2) من خلال شريطيه الروائيين «أرض مجهولة» (2002) و«الجبل» (2010). في «أرض مجهولة»، طالعتنا شخصيات من باطن المدينة ومن هامشها ما بعد الحرب الأهلية، حيث يقدم نظرة مقرّبة على جيل الحرب وعلاقته المهشّمة مع بيروت. من المدينة إلى «الجبل» يأخذنا سلهب، على خطى بطله فادي أبي سمرا، الذي يتغيرّ قدره، مع تبديل طريق المطار إلى رحلة نحو جبل العزلة، بعيداً عن بيروت. تسكن بيروت معظم الأعمال، لكن بمقاربات وطروحات تختلف بين فنان وآخر. بيروت هي الفضاء الخارجي لـ«جوغينغ» (10/2) حنان الحاج علي. أمام عماراتها القديمة والجديدة تمشي وتهرول تجنباً لعدد لا يحصى من الأوبئة والأمراض. مونولوغاتها الداخلية، تمرّ حتماً بالعاصمة اللبنانية وبتحوّلاتها، وتتماهى مع شخصيات أنثوية عدّة أبرزها «ميديا». على البرنامج أيضاً، أمسية أدبية تجمع الروائيين اللبنانيين هدى بركات وإيمان حميدان والياس خوري. ترصد الأمسية (9/2) علاقة الأدب مع السياسة، أي العلاقة التي شهدت اقتراناً وثيقاً بالرواية اللبنانية. تتضمّن الأمسية قراءات من نتاجهم الأدبي، بينما سيتوقفون عند مدينة بيروت التي تعدّ مسرحاً أساسياً ظاهراً أو مخفياً لأحداث رواياتهم. النموذج السياسي والمديني اللبناني هو محور النقاش (11/2) الذي يجمع مؤسّس «الاتحاد العربي الأوروبي» في بلجيكا دياب أبو جهجاه، والمراسل في الشرق الأوسط جورن دي كوك، والمؤرخ والأكاديمي اللبناني فوّاز طرابلسي. سيتمحور اللقاء حول الحرب الأهلية، والنظام اللبناني، وبعض الأزمات؛ منها اللجوء السوري الكثيف إلى لبنان، وتبعاته. هناك ثلاثة مواعيد موسيقية في نهاية «مدن موسم: بيروت». بعدما أطلقت ألبومها السادس «وشوشني» في بيروت قبل أشهر، تحطّ الفنانة اللبنانية ريما خشيش في المهرجان (11/2) ضمن جولتها في بلجيكا وهولندا حالياً. إحدى أبرز المغنيات اللبنانيات المعاصرات، اللواتي قاربن التراث الكلاسيكي العربي بأسلوب ارتجالي وتجريبي يمزج أنماطاً مختلفة، ستقدّم مجموعة من أغنياتها الـ 15 الجديدة التي تعاونت فيها مع عدد من الموسيقيين والكتّاب اللبنانيين والأجانب، مثل: مارتن فان در غرينتن وربيع مروّة وغيرهما. الهيب هوب والموسيقى الإلكترونية والإيقاعات العربية السريعة هي حصيلة أمسية تجمع فنانين من بروكسل وبيروت. تقدم الفنانة اللبنانية الفرنسية ماليكا، وDJ Selecta Arabee، ودجوني مادنس، وتونينو رحلات موسيقية متعددة الأصوات في أمسية جماعية (16/2). أما حفلة الختام، فستكون مع «غرام وانتقام» (18/2) الذي شاهدناه مراراً في بيروت خلال السنوات الثلاث الأخيرة. يجمع العرض الموسيقي/ البصري فنان الهيب هوب اللبناني ريّس بيك، والفنانة البصرية رندا ميرزا اللذين يوغلان في التراث الشرقي الكلاسيكي من خلال الموسيقى الإلكترونية، والفيديوات البصرية المعاصرة المستقاة من السينما والموسيقى العربية في أربعينيات القرن الماضي. إلى جانب هذه العروض، قدّمت في الأيام الأولى للمهرجان عروض ومحاضرات مختلفة؛ أبرزها تجهيز أدائي لنانسي نعوس بعنوان «الدائرة الثالثة ــ تقاسيم». لا تبتعد الكوريغراف اللبنانية عن الأوضاع الراهنة في عروضها الراقصة. هكذا اختبرت في «الدائرة الثالثة» توجه الفن بالاستناد إلى الشريعة الإسلامية هذه المرة، من خلال مقابلات مع رجال دين إسلاميين. تانيا خوري قدّمت تجهيز «حدائق تحكي» الذي يستعيد عبر التسجيلات الصوتية والقصص فترة مأسوية من الحرب السورية، حين تحوّلت حدائق المنازل إلى مقابر لجثث الناشطين والمتظاهرين. مجموعة «ديكتافون» التي تفكّك وتوثق وتقارب إشكاليات مدينية عبر محاضرات تفاعليّة، قدّمت تجهيز فيديو «لا شيء للتصريح» حول السكك الحديدية في لبنان من عام 1891 حتى فترة الحرب الأهلية. في محاضرتها «تاريخ لبنان عبر أعمال فنانيه وفناناته»، وثّقت المصوّرة سيرين فتوح لثلاث حقبات وتحوّلات مفصلية في لبنان من منظور فنانيه وفناناته. الجمهوران البلجيكي والعربي في بلجيكا شاهدا أيضاً تجهيز فيديو «جغرافيات» للمخرجة شاغيغ آرزومانيان، وعرض «لا يتخلّله دماء» لبترا سرحال، ومسرحية «الدولة الزائلة» للوسيان أبو رجيلي، ومحاضرة لطوني شكر يسقط فيها الشخصيات الأسطورية على الأحداث السياسية الراهنة. ورغم أنه ليس للمهرجان أهداف سياسية مباشرة، إلا أنه «سيسهم بلا شك في فهم المجتمع اللبناني والمجتمعات العربية وتصحيح الصورة النمطية السائدة»، كما يقول مدير «موسم» محمد اقوبعان.

«مدن موسم: بيروت»: حتى 18 شباط (فبراير) ــ فضاءات ثقافية عدة في بلجيكا. http://moussem.be/beirut/en/about