عرفته قليلاً. هبته كثيراً. ناكفته بحذر. دافئاً كما كان. لمّاحاً ومتّقداً كما كان. كان عليّ أن أستثمر دفء القرابة العائلية من تلك القامة لأستظلّ بالرأفة ملامِسةً باحتراس تخوم تلك الشخصية الفذة الفائضة علماً ومعرفة وثراءً إنسانيّاً لا ينضب. ذلك الرجل كان نبعاً معرفياً. وكنت وما زلت فخورة به جدّاً لابنتي، ووالداً لزوجي، ووالداً لي إن يقبل بنوّتي.تلك الجلسات الهانئة تحت شجرة الصفصاف الوارفة أمام المنزل في العديسة كانت ساحرة. قليلة لكن صافية، رقراقة، ومكثفة. صعبٌ أن أحصي عدد أبيات أمهات الشعر العربي التي انسابت خلال تلك الأحاديث، ونوادر الثقافة العربية التي سردها عبد الحميد، والابتسامات... تلك الابتسامات المرحة المتخففة التي تختصر رحلة عمر خيضت من دون غلّ ولا أحقاد، وتلك النظرة الثاقبة التي نفذت إلى كنه النفس البشرية وفهمت باكراً كل شيء وتعففت باكراً عن كل شيء، فعاشت وحيدة في صومعة ناسك هانئ البال كاره للبشر عاشق لهم.

رحلة طويلة كانت رحلة عبد الحميد. بدأها في عديسة وأنهاها هناك، في حديقته، مثل Ingénu فولتير.
من العديسة إلى بيروت ومنها إلى فرنسا ثم بيروت فالعديسة مجدداً... هناك بدأ. وهناك أراد أن ينتهي. بين البسطاء. وفي عزلته الغالية على قلبه. فذلك الإنسان الحقيقي كان يعرف كيف يمزج بين أكثر نظريات الفلاسفة تعقيداً وحكمة راعي الأغنام. كان يدرك تماماً أنهما طرفا المعادلة، وكان يعدل في مقاربتهما من دون عقدٍ ثقافية مستمدة من مقاهي المثقفين ولا اعتبارات طبقية تورثها المدن لمريديها من الريفيين.
بعد رحيله، وجدت العائلة في مكتبته العملاقة التي أفنى عمره في «بنائها» أمّهات الكتب، وعشرات المخطوطات بخط يده بين شعرٍ ونثرٍ ونقدٍ وكتابة. وفي تلك المكتبة أيضاً، كانت بعض الأوراق المتناثرة تحمل نصوصاً في الأدب الشعبي اللماح، وتشكّل كتاباً في طور الاكتمال، جمع فيه عبد الحميد بعض حكايات محيطه قبل أن يغادر في رحلته الأخيرة.
ففي أقاصي الجنوب اللبناني حكايات لا يعرفها إلا قاطنوه، وطرائف لا يتداولها إلا أبناؤه، ومواقف لا يتلقّفها سوى المتنبّهين أصحاب الروح المتقدة والعيون الراصدة والأقلام اللماحة، من الشاهدين عليها أو المتقصّين عنها. وعبد الحميد، ابن جبل عامل، وبلدة العديسة تحديداً، الذي ولد في تلك الأرض وعشقها وعشق أهلها ثم سافر بعيداً وخاض رحلة طويلة قبل أن يعود ويستقر فيها، هو أحد هؤلاء الشهود. بعين الرسام الدقيقة كحدّ السيف، الدافئة كألوان التراب، كان قد تأمّل ورصد قصص أهل قريته والجوار، وبلغته العربية الفذّة وروحه المرحة وأسلوبه اللماح، كتبها.
هكذا، جاءت فكرة إصدار كتاب «حديث الشيخوخة» (نوفل ـ هاشيت انطوان) وهو عنوان لوحة الغلاف بريشته، تكريماً لمسيرته الطويلة كأكاديمي ورسام وشاعر وكاتب ولذكرى مرور سنتين على غيابه.
«حديث الشيخوخة» ليس سوى نقطة في بحر ما خلّفه عبد الحميد من كتابات تتفاوت بين شعرٍ ونصوصٍ كتابات نقدية. هو الأبسط صحيح، لكنّه الأقرب إلى روحه. يحمل بين دفّتيه حكايات البسطاء التي تنضح بالمُثل والطرفة والحكمة، من جبل عامل، ومن بلدة العديسة تحديداً.
وهو ليس سوى شذرة من شذرات عبد الحميد، وركناً جانبيّاً من أركان عالمه الواسع والثري...