في أعالي عكّار، يعيش «هيكل». «الشمبوق» اسم المنطقة. الحدود السورية أقرب من الوصف. قلعة الحصن على مرمى النظر. الأديان والطوائف متلاصقة. التاريخ معشّش في الذاكرة. التأثير متبادل. بين «القبيّات» و«عكّار العتيقة» و«حلبا» والحدود، تبقى الأرض، ويرحل أهلها.
هيكل مسيحيّ ستيني. لا يملّ من الزراعة، وإدارة مطعم صغير. تعاونه «رويدة» التي تعتبره أباً وملجأ. صديقه المقرّب «أنطوان» يأتي للزيارة. الخلاف التاريخي بين العائلتين حول الأرض، لم يمنع الرجلين من تجاوزه، واحتساء بعض الأقداح. المناظر خلّابة. الكسّارات مزعجة. الحرب السوريّة جاثمة. المواسم صراع وجلد وصبر جميل.
هذه أجواء جديد إليان الراهب (1972) «ميّل يا غزيّل» Those Who Remain، الذي فاز بجائزة لجنة التحكيم في «مهرجان دبي السينمائي الدولي» الأخير، إثر عرضه العالمي الأول في مسابقة «المهر الطويل». شتّان ما بين «هيكل» المرتبط بالجذور والأشجار، وبين أسعد الشفتري في «ليالٍ بلا نوم» (2012 - 5 جوائز، منها أفضل وثائقي في مهرجان Birds Eye View بلندن)، الذي ارتكب الفظاعات في الحرب الأهليّة قبل أن يتلو فعل الندامة كما رأينا في الشريط. مع ذلك، يعترف هيكل أنّه أطلق النار دفاعاً عن النفس آنذاك. الشريطان متباعدان أيضاً. الجديد أكثر بساطةً وهدوءاً وتقيّداً بجغرافيا واحدة، غير أنّهما يشتركان في التسامح كتيمة ودعوة.
من دون تكلّف، تبني الراهب الثقة مع أبطالها. تنفذ إلى العمق كما اعتادت منذ الروائي القصير «العرض الأخير» (1995)، حول ارتباط فتاة (إليان نفسها) بدار عرض سينمائي لجدّها. في «لقاء» (1996)، بدأت بتفكيك ما بعد الحرب الأهليّة، من خلال اجتماع ثلاثة أشخاص مختلفي الرؤى، يجولون بسياراتهم في شوارع بيروت. بعدها، دخلت المعترك الوثائقي، متابعةً رصد الحروب في القلوب والذاكرة. «قريب بعيد» (2002) عن الانتفاضة الفلسطينية في عيون أطفال من لبنان والأردن ومصر. «انتحار» (2003) عن العرب المنخرطين في غزو العراق بطريقة أو بأخرى.

جمال منطقة لا يسمع
اللبنانيون عنها سوى أخبار الفقر والحوادث الأمنيّة

نضج أكبر أظهرته إليان في «هيدا لبنان» (2008 - جائزة الامتياز في مهرجان ياماغاتا الياباني)، عن مخاوف وتناقضات الطوائف. انطلقت من الذاتي (كما الكثير من السينمائيين اللبنانيين)، لتلمّس الشرخ بين الجيل القديم المتشبّث بعصبيته، وقسم من الشباب الساعي إلى التحرّر منها. في السجالي الحاد «ليال بلا نوم» (2013)، جمعت الصحافة الاستقصائية مع سينما ما بعد الحرب، لنبش ملف مفقوديها. الحصيلة مقبرتان جماعيتان. جرعة أمل للأهالي، وشعلة حراك للمنظمات الحقوقية المهتمة. بعدها، سخرت في دقيقتين كوميديتين من حال الكهرباء في «محتجلك قوي» (2015).
هكذا، يمكن تفهّم حاجة إليان الراهب إلى شريط مسالم مثل «ميّل يا غزيّل»، بعد كل ذلك العمل الإشكالي المعقد.
بمجرّد قيام صديقتها التي تمارس رياضة المشي في المنطقة بتعريفها على هيكل، وجدت فيه المعاني المنشودة. التأصّل في المكان، بعيداً عن الهراء الإثني والطائفي، وفوق ترهات السياسة. الحفاظ على الوجود ضروري للجميع. لا أحد قادر على تعويض الآخر أو أخذ مكانه. الجغرافيا كائن مستقل باقٍ. ملك نفسها، وليس لمن يزرعها كما يُشاع. بحضور هيكل (الأرض) ورويدة (العائلة) وأنطوان (العلمانية)، يلتئم الثلاثي المتمرّد على البنى القائمة. اختلافهم عن «القطيع» ضامن لتحالفهم غير المعلن. كلّ منهم يحتاج إلى ما يمثّله الآخر.
عبر ثلاثة فصول، هي «هيكل الشمبوق»، و«الأرض»، و«العتبة» (عناوين أحبّها هيكل للفيلم)، تسرد إليان الكثير عن ماضيه وحاضره. تسجّل تحوّلات المناخ، وانقلاب الفصول، وتجديد البيت العتيق. مفاجأة أنّ التصوير اقتصر على 11 يوماً فقط. السر أنّه تمّ على مدار عام كامل، مع انتقاء مواعيد التغيّرات المقصودة. هذا مردود التحضير المسبق، والبحث الوافي، في فيلم البطل الواحد (سيناريو وتوليف وإنتاج إليان الراهب). انكسارات هيكل مرتبطة بأحداث ذاتية وعامّة (الطلاق، هدم المزرعة، الصراع على الأرض، رحيل معظم الأبناء وأهل المنطقة إلى بيروت والخارج...). لذلك، تشدّد العدسة على جمال منطقة، لا يسمع اللبنانيون عنها سوى أخبار الفقر والحوادث الأمنيّة (تصوير جوسلين أبي جبرايل). تخرجها من سجن الصورة النمطية، إلى نقاء الأوكسجين ورحابة المدى.
في المحصلة، هذا فيلم جميل، قادر على منح الأمل، وبعث التفاؤل. ماهر في التذكير بالمنسيات. ليس من باب النوستالجيا الفارغة، وإنّما من الحاجة والضرورة، وحلاوة روح «الذين بقوا». التفاعل بين الطبيعة الصامتة، والبشر المتحدّثين ساحر في التأثير ومغازلة الوجدان. هيكل اسم على مسمّى. لا غريب أنّه راغب في الخلود و«عمل الكونترول» بعد الموت. هو أرض على هيئة رجل.