كان ذلك في ثمانينات القرن الماضي، حين درس لطفي بوشوشي (1964) السينما في فرنسا، لكن المخرج الجزائري الذي ينحدر من عائلة فنية، اشتغل لسنوات طويلة مساعد مخرج لكبار المخرجين الجزائريين، باستثناء تجارب مهمة في التلفزيون والأفلام الوثائقية، قبل أن يدشّن مسيرته الخاصة أخيراً. العام الماضي، أطل علينا بفيلمه الروائي الطويل الأول «البئر» (90 د)، الذي رُشِّح هذه السنة، للقائمة الطويلة لجوائز «الأوسكار»، ممثلاً الجزائر عن فئة أفضل فيلم أجنبي. في الحديث الذي أجرته معه «الأخبار» أخيراً، يتحدث بوشوشي عن ظروف صناعة فيلمه الذي نال 11 جائزة عربية ودولية، منها أربع جوائز في «مهرجان الإسكندرية السينمائي لدول البحر المتوسط»، وجائزة «أفضل مخرج» في مهرجان «مالمو» للسينما العربية في السويد، إلى جانب «أفضل إخراج» في «مهرجان وهران للفيلم العربي»... وبعد هذه الجولة العربية الطويلة، عاد الشريط أخيراً إلى الجزائر ضمن جولة عروضه التي انطلقت الشهر الماضي في 23 ولاية جزائرية

■ بدأتم هذه الأيام حملة ترويجية واسعة لفيلمكم المرشح ضمن القائمة الطويلة لجوائز «الأوسكار»، من يقف وراء هذه الحملة؟
ـــ فريق الفيلم هو أول من يقف وراء هذه الحملة، فنحن نريد أن يشاهد كل جزائري الفيلم الذي يمثله في منافسة «الأوسكار» ويدعمه على نحو ما. ويجب أن نعترف بأن هذه الخطوة جاءت متأخرة نظراً إلى اقتراب الموعد. برغم ذلك، هناك دعم كبير من جهات مختلفة، وخصوصاً الإعلام، وبعض المؤسسات الجزائرية وبعض رجال أعمال وعدونا بالوقوف معنا. كذلك هناك جهات رسمية، مثل السفير الجزائري في واشنطن الذي أبدى اهتماماً كبيراً ووعد بالمساعدة.

■ هل كنت تنتظر أن يمثل «البئر» الجزائر في ترشيحات «الأوسكار»؟
ـــ لا، لم انتظر ذلك أبداً. وللأمانة لم أفكر فيه من الأساس، ولا حتى في باقي المهرجانات السينمائية التي شارك فيها الفيلم لاحقاً. كان كل همي في البداية إنجاز فيلم مطابق للمعايير السينمائية، وخصوصاً أن «البئر» أول فيلم روائي طويل أخرجه. لذلك، كنت أمر أثناء مرحلة التصوير بلحظات قلق حادة تنتهي بي إلى الرغبة في إعادة العمل بالكامل. هذا إلى جانب الضغوط المالية، لأن ميزانية الفيلم كانت الأقل بين المشاريع السينمائية التي جرى إنتاجها في مناسبة الاحتفال بالعيد الخمسين لاستقلال الجزائر.

■ بعد فوز «البئر» بـ 11 جائزة عربية، ألم تتحمّس للذهاب به بعيداً؟
ــ لقد جاء الأمر على نحو عكسي. بعدما انتهيت من الفيلم، لاحظت ردود أفعال إيجابية جداً أبداها محترفون جزائريون وأجانب، هذا ما شجعني على تقديمه في ترشيحات «الأوسكار» العام الماضي، لكن الرد كان سلبياً منذ البداية، لأن الرهان وقتها كان على فيلم «غروب الظلال» للمخرج الكبير محمد لخضر حمينة. لذلك تخليت عن الأمر ونسيته وقررت المشاركة في منافسات أخرى عربية حصدنا خلالها جوائز مهمة، ليجري بعدها الاتصال بي في شهر أيلول (سبتمبر) الماضي لإبلاغي أن الفيلم اختير لترشيحات «الأوسكار».
شعرت بأنه لا بد من أن تظهر التضحيات الكبيرة التي تقدمها المرأة في الحروب

■ اخترت زاوية مختلفة مقارنة بالأفلام التي عالجت الثورة الجزائرية، أهمّها تصوير الشعب على أنه هو البطل، لماذا؟
ــ هذا الخيار كان مقصوداً ومؤسساً. منذ بداية العمل مع كاتب السيناريو ياسين محمد بن الحاج، أردنا تجاوز الوجه المكرس لتصوير المرحلة الاستعمارية، وخصوصاً المقاومة، التي تقدم دائماً عبر المعارك والدماء والأسلحة. لم يستهونا هذا الخيار الحربي، فبعد مرور خمسين سنة على الاستقلال، يصبح الالتفات نحو زاوية مختلفة أمراً ملحّاً، وخصوصاً المعاناة الإنسانية. برغم استمرار الكفاح المسلح على نحو متقطع، منذ لحظة الاستعمار وصولاً إلى إعلان «الثورة التحريرية الكبرى» التي استمرت سبع سنوات متتالية، فإن هذا الكفاح لا يضاهي المقاومة الإنسانية الحقيقية، التي استمرّت طوال قرن وثلاثين عاماً من التجويع والاغتصاب والتعذيب. أظن أن الوقت قد حان للاهتمام بهذه التفاصيل وتظهيرها.

■ يصوّر الفيلم يوميات مجموعة من النسوة، ألم يخفك كسر صورة «المجاهد»/ الرجل كنمط سينمائي واجتماعي للمقاومة في الذاكرة الجماعية الجزائرية؟
ـــ لكي أكون صادقاً، لم تكن المساحة المخصصة للمرأة في بداية المشروع هي نفسها التي ظهرت في الصيغة النهائية للفيلم، التي تتحول فيها النسوة إلى الحلقة الأساسية التي يدور الكل حولها. الأمر تجاوزني بطريقة ما، كنت منذ البداية ضد الصورة النمطية التي تظهر فيها المرأة، إما ممرضة أو تجهز الطعام لرجال المقاومة، لكن مع براعة الفريق الذي عمل معي من السيدات وتطوّر الأحداث، قررت أن أسمح للأمر بالذهاب بعيداً إلى أن تحول إلى جوهر للعمل. وفي مراحل ما بعد التصوير، بدأت أشعر بأنه لا بد من تظهير صورة التضحيات الإنسانية الكبيرة التي تقدمها النساء في الحروب كخزان أساسي للمقاومة.

■ عرض في مهرجانات وصالات عربية كثيرة، كيف كان التفاعل معه؟
ـــ كان التفاعل ممتازاً، وقد أثر بي هذا الأمر كثيراً. رد فعل الجمهور العربي كان قوياً، وعلى نحو ما إنسانياً. هناك أشخاص سوريون وعراقيون عبروا عن الأمر كأنه ينقل معاناتهم الشخصية، لكن من أكثر الصور التي ظلت راسخة في ذهني هي لمواطن فلسطيني، قال لي: «هذا الفيلم يجب أن يشاهده كل فلسطيني، فالأرض هي الأهم ولو مات الجميع، والأمل في استرجاعها وليد المقاومة من أجلها».

■ هل أنت متفائل بشأن بلوغ فيلمك القائمة القصيرة؟
ـــ يجب أن نكون واقعيين، المنافسة مع 85 فيلماً عالمياً تقف وراءها كبريات الشركات الدعائية، ليست مسألة سهلة. وقد تأخرنا كثيراً في العمل الدعائي، وما زال أمامنا الكثير لإنجازه، فنحن على الأقل بحاجة للوصول إلى دعم داخلي كبير، إلى جانب تنظيم عرضين -على الأقل- في الولايات المتحدة، واحد في نيويورك وآخر في لوس أنجلوس للوصول إلى عدد من الناخبين، وهذه مسألة معقدة وسيجعلها الوقت أكثر تعقيداً، لكن بالنسبة إلى التفاؤل، أنا متفائل دائماً، والسينما في الأخير هي صناعة الحلم.




النساء هن البطلات!

هذه المرة تذهب الجزائر بوجه جديد، إلى المنافسة العالمية على جوائز «الأوسكار» لفئة أفضل فيلم أجنبي. بعدما توجّهت ترشيحاتها الثلاثة الأخيرة لهذه المسابقة على التوالي (2006، 2010 و2011)، إلى أفلام للمخرج الفرنكو- جزائري رشيد بوشارب (1953)، رشحت «اللجنة المكلفة اختيار الأفلام الجزائرية المشاركة في الأوسكار» هذه السنة، برئاسة المخرج الكبير محمد لخضر حمينة (1934)، فيلم «البئر» (90 د ـ 2015) للطفي بوشوشي بدلاً من «الطريق إلى اسطنبول» لبوشارب. شريط بوشوشي الذي أنتجته «وزارة الثقافة الجزائرية»، في إطار برنامجها الاحتفالي بالذكرى الخمسين لاستقلال الجزائر، بدأ من قصة كتبها عمُ المخرج الذي كان ضابطاً في «جيش التحرير الجزائري» منذ أربعين سنة. وفق بوشوشي، فإن القصّة تروي، عبر ثلاث ورقات، مأساة قرية تطوّقها القوات الاستعمارية الفرنسية ليبقى سكانها تحت الحصار أياماً عدّة. من هذه القصة، انطلق محمد ياسين بلحاج لكتابة السيناريو، قبل أن يترجمه بوشوشي سينمائياً في 90 دقيقة، في تجربته الروائية الأولى. تجربة أشاد بها المخرج الكبير لخضر حمينة في المؤتمر الصحافي لإعلان النتائج، مؤكداً أن الفيلم يظهر إحترافية على كل المستويات.
بشكل ما يُحيل الفيلم المُشاهد إلى عالم طاليس بالتجلي القوي لمفهوم «الماء هو أصل كل الأشياء»، عندما يجعل قرية جزائرية في بيئة توحي بالصحراء، من دون ذكر ذلك بشكل مباشر. المخرج جعل سقف المكان والزمان مرفوعين إلى حد انسحاب الحكاية على كل مأساة إنسانية مشابهة، حيث تحاصر القوات الاستعمارية الفرنسية القرية بسبب المقاومة المسلحة التي تكون على شكل حرب عصابات. يستغل المخرج ملامح هذه الحرب لإزالة الحضور المكثف للرجل من الصورة، مشرّعاً المجال لمجموعة من النسوة اللواتي تتقدمهن الفنانة الفرنكوـ جزائرية نادية أيت قاسي في دور «فريحة» الذي أدته ببراعة كبيرة ونالت عنه جائزة أفضل ممثلة في «مهرجان الإسكندرية السينمائي لدول البحر المتوسط». يظهّر الفيلم عزلة شديدة لقرية لا يوجد فيها إلا نساء، وأطفال وشيوخ، يبدأ الجيش الفرنسي بالانتقام منهم عندما يبدون مقاومة شديدة ويرفضون الرضوخ للتعاون معه. هكذا يمنع مرور الماء عبر الجسر الوحيد الذي يربط القرية بالمحيط الخارجي، لتتشكل ملامح المأساة وتتفاقم بعد رمي جثث جنود فرنسيين داخل البئر الوحيدة التي توجد في القرية. تكثف عدسة بوشوشي القبض على التفاصيل المرعبة للظمأ الذي يصيب سكان القرية، ويتسبب في جفاف أطفالهم وأرضهم ونفوق حيواناتهم. مع ذلك، يواصلون المقاومة رغم تربص الموت بهم. يقدم «البئر» وجهاً جديداً لمقاومة الإستعمار في الجزائر، أو الإستعمار بشكل عام، فيعكس بعمق عبارة «الشعب هو البطل»، حيث لا تنحصر المقاومة في المعارك المسلحة والقادة النبلاء، وإنما في التضحيات الحقيقة للأفراد بشكل دائم، وبسيط ولا واعٍ (خارج الإطار السياسي)، هذا ما جعل الحضور الإنساني لافتاً ومكثفاً في الشريط. ترفّع بوشوشي أحياناً عن الأحقاد المباشرة، ليقدم صورة أقرب إلى الحقيقة منها إلى الأسطورة، مصوراً النبل والخيانة كسلوكيات تتعلق بالأفراد في بعض المشاهد التي تتجاوز الصورة المكرسة للفرنسي الجلاد والجزائري الضحية، كطرحه لشخصية فرنسي يساعد جزائرياً في مشهد مؤثّر.
زهور...