مالك شبل... إسلام التنوير | اتصلت بالمفكر الكبير مالك شبل قبل أسابيع، واستأذنته لإجراء حوار صحافي معه، لكنه اعتذر بلباقة ولطف شديدين. أخبرني أنّه مريض يعالج في المستشفى. بدا صوته خافتاً وعميقاً، كما لمست في حديثه المقتضب نبرة ضعف وتحدٍّ، فأحسست فعلاً أنه يعاني بصمت. تمنيت له الشفاء وأجلنا اللقاء إلى موعد آخر. لم أكن أدرك حينها أنّ ذلك لن يحدث أبداً. عرفت من صديقه المقرب رئيس تحرير «نيو أفريكان» هشام بن يعيش أنّه خاض معركة بلا هوادة ضد السرطان منذ كانون الثاني (يناير) الماضي. اشتدت آلامه خلال الشهرين الأخيرين، وتداعت حالته الجسدية والنفسية نتيجة العلاج الكيميائي. شاء القدر أن يرحل صاحب «موسوعة الحب في الإسلام» عشية الذكرى الأولى لاعتداءات باريس الدامية، هو الذي اشتهر في المشهد الثقافي الفرنسي بدفاعه المستميت عن إسلام الأنوار ومحاربته للفكر المتطرف المتفشي في الضواحي الفرنسية. حرص على تأليف بعض كتبه بأسلوب بسيط وبيعها بأسعار رمزية لتكون في متناول الجميع، حتى يمكننا أن نجدها في المكتبات الفرنسية.
لقد كان هذا المفكر متحدثاً حكيماً في وسائل الإعلام الفرنسية التي لطالما وقعت في فخ الخلط بين الإسلام والاسلاموية. كان يحاور الآخرين بالحجة وبالإصغاء والتواصل، وهذا ما جعله مثقفاً استثنائياً لم ينجرف نحو اللوبيات أو الدوائر الثقافية المغلقة. ظل حراً ومحايداً يتمتع بروح المسؤولية التي اكتسبها منذ طفولته العسيرة في الجزائر. يقول هشام بن يعيش لـ «الأخبار»: «نشأ مالك يتيماً بعد وفاة والده إبان الثورة الجزائرية، التحق بالمدرسة الداخلية في مسقط رأسه سكيكدة ثم قسنطينة، وهذا ما منحه قوة الشخصية والشعور بالاعتماد على النفس. كان يتمتع بإرادة وذكاء رهيبين لحلّ مشاكله، ومن هنا تكوّنت مقدرته على إثارة الإشكاليات الفلسفية ومجابهة أعقد القضايا الفكرية».
على خطى مواطنه محمد أركون، دأب على إصلاح الفكر الإسلامي في مؤلفاته التي تجاوزت الثلاثين. اعتمدت نظرياته على التجربة العلمانيّة، واجتهد لتخليص الثقافة الإسلامية من الأفكار الرجعية وخطابات الطائفية والانغلاق، عبر مطالبته بالاهتمام بمركزية الإنسان المسلم داخل مجتمعه. نادى بتحرير الفكر واحترام الآخر، بل كان أكثر جرأة عندما دعا إلى إعادة قراءة القرآن وفق السيرورة التاريخية. طرح قضية فصل الشأن السياسي عن الديني، مما فتح عليه جبهات تعادي فكره وتحاربه.
كان مهووساً بالعالم العربي والحضارة الإسلامية، فأفنى حياته في البحث عن مفاتيح لفهم التراث وتأويله، وتقديم حلول لظاهرة الإسلاموفوبيا وتنامي ظاهرة الأصولية الدينية في فرنسا. أخذ على عاتقه الترويج للخطاب التنويري للإسلام، وقد وظف لذلك عملاً بيداغوجياً مؤسساً، بل كسر التابوهات من خلال إثارته موضوع الجنس وجسد المرأة وإبعاد الدين عن السياسة. يقول الباحث محمد شوقي الزين، مؤلف كتاب «الثقافة في أزمنة العجاف» لـ «الأخبار»: «لقد كان الراحل من المثابرين على تقديم رؤية علمية للإسلام، تلتفت إلى المسكوت عنه واللامفكر فيه من جُملة الظواهر المتعلقة بالحب والجنس والأخلاق والسياسة. ربما يشكّل كتابه «بيان من أجل إسلام التنوير» (2004) منعطفاً حاسماً في ردكلة الكتابة الأنثروبولوجية نحو قراءة الأعماق مثل المخيال، والحب، والجنس، والذات، وأسئلة اللاشعور، والقلق، والحظر والخطيئة، وهي الأساليب المهيمنة في القول الديني التي تقتضي قراءة مركَّبة من حيث المفاهيم والتأويلات: أنثروبولوجية، سيكولوجية، فينوميولوجية... قراءات معمَّقة في إنتاجه الفكري كفيلة بتبيان نظام الرؤية وطبيعة المنهج في مقاربة التراث العربي الإسلامي».
أغلب قراء هذا المفكر من الجنس اللطيف، إذ يحظى بشريحة واسعة من القارئات لأعماله بسبب جرأته في إثارة قضايا تخصهن وتسليط الضوء على مجتمعاتهن المنغلقة. كما لم يسعفه القدر متسعاً من الوقت لإصدار خمسة مشاريع كان يجري تنقيحاته الأخيرة عليها، وكان يُفترض أن تصدر عن دار «بلون» و«ألبان ميشال» العام المقبل، من بينها بيبليوغرافيا خاصة به.
يرى المقربون منه أنه كان مستاء من تغييبه في بلاده الأصلية التي أصدر عنها كتابه «قاموس العشق في الجزائر» (2012)، فلم تدعه الجهات الرسمية للمشاركة في الفعاليات الثقافية يوماً، ما عدا دعوته من قبل المركز الثقافي الفرنسي في الجزائر لتقديم محاضرة، واستضافته في ندوة أقامتها جريدة «جزائر نيوز» قبل سنوات. ومثلما ظلّ يصر على قضاء شهر كل سنة في مدينته حيث عشق المراكب الشراعية والبحر، اختارها أن تكون مرقده الأبدي.