مالك شبل... إسلام التنوير | أمام تصاعد الحركات الإسلامية المتطرّفة التي تبشّر بـ «إسلام غاضب»، يتساقط المفكّرون الأحرار الواحد تلو الآخر، كأنّ القدر قد سلّط لعناته على كل الأصوات المستنيرة ليفسح المجال واسعاً أمام «مجانين الاله». إذا أردنا أن نقوم بعملية إحصاء لأكثر المفكّرين دفاعاً عن الإسلام والمسلمين في المنابر الإعلامية، سنجد مالك شبل على رأس القائمة. لم يتوانَ عن الدفاع عن رؤيته ونظرته إلى إسلام مستنير يرتكز إلى البعد المقاصديّ والتأويل المفتوح على كل التيارات الفكرية، إذ يرفض كلّ دعوة للعنف أو نبذ الآخر المختلف.
قدّم قراءة ثوريّة تحرّر النص
يرتكز فكر مؤلّف «الفكر العربي الإسلامي» أساساً إلى استغلال الآفاق الجديدة التي تتيحها العلوم الإنسانيّة ليطبّقها عبر استثمارها وتوظيفها في فهم النص القرآني والموروث الإسلامي بصفة عامة. كما سعى عبر كتاباته إلى التأكيد على تاريخية النص، مما يؤدّي إلى القول بأنّ تعدّد القراءات واختلاف الرّؤى من المصادر التي تثري الفكر الإسلامي فـ «التنوّع في الوحدة، والوحدة في التنوّع» كما كتب الفيلسوف الفرنسي إدغار موران. إنّ فكره ينبني على قيم كونيّة جامعة للبشر، تخرج من الدوائر الضيّقة وترفض الإنغلاق، ساعيةً إلى بلوغ آفاق أرحب وأوسع. أي أنّه كان يطمح إلى إخراج الإسلام من القراءات المتطرّفة التي تحبسه في دوائر التعصّب نحو أفق أوسع حيث يكون إعمال العقل والتفكير سلاحاً لفهم النص ومقاصده. إنّ مبدع عبارة «إسلام الأنوار» توخّى خلال مسيرته الطويلة، منهجاً واضحاً وناجعاً في البحث، فهو يعتمد على تقنية «الفلاش باك» أي العودة إلى الذاكرة الجماعيّة والنّبش والتنقيب في أسباب الإزدهار والرقي الفكري. ينهل من تاريخ مختلف الأمم والحضارات ليحاول في مرحلة ثانية إعادة إنتاجها ضمن سياقات تتماشى ومتطلّبات الموروث والثقافة الإسلاميين. إنّها قراءة ثوريّة تحرّر النص، وتحطّم كلّ القيود التي فرضها الفقهاء منذ عصور غابرة. لقد إقتحم شبل بمؤلّفيه «الجسد في الإسلام» (1984) و«موسوعة الحبّ في الإسلام» (1995) مجالاً لطالما تجنّبه الكتّاب والأكاديميون المعاصرون، لما يتطلّبه من جرأة في التعامل مع الأحداث التاريخية المجهولة التي تؤدّي إلى تسليط الضوء على تابوهات كالجنس ومكانة الجسد في الإسلام وتاريخ الحضارة العربيّة.
إنّ إسلام الأنوار كما نظّر له الراحل، هو إسلام في متناول الجميع بعيداً عن تعقيدات الفقهاء وسلطة المؤسسات الدينية. شبل اختار أن يترجم القرآن إلى الفرنسيّة (فكرة سبقه إليها كثيرون)، لكنّ الترجمة كانت قائمة أساساً على المعاني من دون الاهتمام والتركيز على المفردات والتراكيب. هكذا أفنى حياته محاولاً الدفاع عن جوهر الدين. هذا الأنثروبولوجي الفذّ انتصر لإسلام المعاني والتفكير، على حساب إسلام التعبّد والمظاهر.