مالك شبل... إسلام التنوير | منذ كتابه الأوّل «الجسد في الاسلام» الصادر منتصف الثمانينيات بالفرنسيّة في باريس، بدت طريق مالك شبل (١٩٥٣-٢٠١٦) مرسومة سلفاً، ورحلته العلميّة واضحة الملامح والاهداف. تلك الرحلة التي تطوّرت وتعمّقت وأثارت جدلاً غزيراً، على امتداد ٣٥ مؤلّفاً وترجمة ودراسة، عدا المخطوطات والمشاريع التي لم يمهله المرض العضال وقتاً كافياً لانجازها. ماذا لو كان مشروع هذا المثقّف الجزائري والباحث الذي جمع بين علم النفس والتاريخ وانتروبولوجيا الأديان، هو رحلة أنانيّة في النهاية، أو بالأحرى رحلة حميمة، رحلة بحث عن الذات، في قلب التمزّقات وحمامات الدم والانحرافات الأصولية والعنصرية التي طبعت تلك العلاقة المتوتّرة بين الذات والآخر. عودة نقدية الى الجذور لمواجهة الذات ومساءلة الآخر، أو مصارحته أو «تنويره». مشروع هذا المثقف الجزائري انطلق في لحظة مأزومة، متوتّرة، في لحظة مواجهة وجد نفسه عالقاً عندها. من جهة الحضارة العربيّة - الاسلاميّة التي ينحدر منها، في حالة دفاع لمقاومة الطغيان الفكري والسياسي والاقتصادي والعسكري، وأمام منزلقات الانحطاط والانغلاق. ومن الجهة الأخرى الحضارة الغربية المهيمنة بالمعنى الاستعماري، إنّما التي غرف منها أفكاره ومرجعياته، وانتمى الى قيمها العقلانيّة، واستعمل أدواتها ومعارفها وعلومها لفهم العالم ودراسته.لا يمكن أن نحسم اليوم هل كتب مالك شبل كل ما كتب لنا، أم للغرب؟ طبعاً هذا التقسيم الاختزالي يبدو ظالماً، فنحن نخاطب الذات وننتقدها أو نعيد إليها الاعتبار من خلال عمليّة ايصالها الى الآخر، ومواجهته أو الانفتاح عليه. الأكيد أن مالك شبل تقدّم في مسيرته الفكرية بين نارين: نار الاصوليات التكفيرية المتشنّجة التي أبلست ـــ بطبيعة الحال ـــ خطابه التنويري المنفتح، ورفضت مقارباته للفكر الديني في سياقات تاريخية وانتروبولوجية، وطريقة تقديمه للإسلام فكراً وصيرورة ونهجاً وتراثاً… ونار الخطاب التأصيلي والعالمثالثي الذي رأى فيه أحياناً «المسلم اللطيف» المقبول من منظومة مهيمنة يخاطبها بما يريحها ويسرّها وتريد (أو تحبّ) أن تسمعه! تقريظ الرئيس الفرنسي الأسبق ساركوزي لمالك شبل لدى تقليده وسام الشرف العام 2008، وتغريدة رئيس الحكومة الحالي مانويل فالس بالأمس في رثائه… من القرائن على ذلك. وهناك السؤال المحيّر: لماذا ظُلم هذا الباحث الفريد من نوعه، ولم تترجم مؤلفاته في بلده الجزائر والرباط ودمشق والقاهرة وبيروت؟
لكن لا يمكننا أن ننكر أن أبحاثه، تندرج في سياق معركتنا السيزيفيّة دفاعاً عن العقلانيّة والتنوير. مالك شبل الذي رحل مبكراً جداً، وقف بين عالمين، وكان بينهما وسيطاً ورسولاً. خاض معركة انتزاع الوعي الديني من النمطيّة الماضويّة التي تريد أن تأسره في القرن السابع، متجاهلة كل التطوّرات الفكرية والتاريخية والحضارية التي كان المسلمون محرّكاً فاعلاً فيها. وهو يترك لنا اليوم زاداً ثميناً في هذا الزمن الأعمى، بمعزل عن «ارهاب» الرجل الأبيض المهيمن الذي يريد أن يفرض «علمانيّته» ديناً جديداً مع ما يترتّب عن ذلك من تجريم واقصاء وعنصرية وخوف. ومحاكم تفتيش، وطاعون اسلاموفوبي، وامعان في الاستغلال والهيمنة الاستعماريّة. يسأل مالك شبل ماذا فعلنا لفرض حضورنا كعرب، هل لدينا اليوم الامكانيات لتجاوز كل ذلك؟
لقاءان جمعانا في بيروت، كنت فيهما السائل والمحاوِر، ولم أتردد في توجيه الانتقادات التي ردّ عليها بسلالة ولطف وحزم ووضوح. في العام 2010 ضمن «منتدى المرأة العربية»، أسهب في شرح مقاربته للدين الاسلامي من داخل المجتمع الفرنسي، وتصوّره لدور المثقف في خدمة التنوير. ثم خلال ندوة نظمها «ملتقى ابن رشد» في بيروت (بمشاركة خولة الماطري، ووليد شرارة). كان ذلك في العام 2015، أي بعد الاعتداءات الارهابية في فرنسا. رفض يومذاك بوضوح التستّر خلف وضعية الضحيّة، وطالب باعادة الاعتبار الى العقل. تحدث عن ضرورة اعادة اكتشاف الاسلام، وأكد على أهميّة الحوار الصريح والجريء مع الذات ومع الآخر: «إن إعداد مثقف يتطلب ٣٠ سنة، قال، أما الارهابي فممكن انتاجه في ثلاثين يوماً».
هل كتب مالك شبل لنا أم للغرب؟ ما همّ في النهاية. لقد وضع أسساً نظرية ومعرفية متينة للمشروع التنويري الذي يشكل أفق الخلاص والتقدّم لشعوب هذه المنطقة المعذبة من العالم. طبّق منهجه في التحليل النفسي على ألف ليلة وليلة، وترجم القرآن الكريم بفرنسيّة معاصرة في متناول العامة، وكتب عن «الرغبة» والحب والخمر والنشوة والجسد والمرأة والجنس في الاسلام، ودرس المتخيّل العربي - الاسلامي، والإيروسيّة الإسلاميّة، ولاوعي الإسلام، والحركات الاصلاحيّة في الإسلام. لا بد من أن نعيد قراءة «مانيفستو من أجل إسلام تنويري». لا بد من ترجمة مؤلفات مالك شبل الأساسية إلى العربيّة.