الموت حاضر في الكثير من العروض التي جمعتها «زقاق» ضمن «أرصفتها» أو ضمن «فوكس لبنان». كما لو أن ما سنشهده في في الأيام المقبلة من المهرجان، يضع حروف وصل وفصل بين الموت مجسّداً في فعل فني، والموت الذي نشهده يومياً في محيطنا. بعدما رسخ مارك ميتشل الموت عبر أزياء تشتغل على تصالح المصمم المسرحي مع حالات «فَقد» عاشها لأفراد عرفهم محوّلاً الموت إلى فعل جمالي مغر ومرغوب، وبحث حنان الحاج علي في «جوغينغ» عن الأوجه المتعددة المعاصرة لـ «ميديا» التي قتلت أولادها، تطالعنا بترا سرحال في عرضها الجديد «لا يتضمنه دماء» محاولةً رصد الحزن المؤدى أمام جسد ميت.
العرض جزء من شغل سرحال حول «الصمت والأداء الصادق في تأدية الحزن»
في فضاء أبيض، تتوزع حوله كراسٍ من أشكال وأحجام مختلفة، تقف بترا سرحال وتتوجه مباشرة إلى الجمهور في علاقة ندية يتحول فيها الجمهور أيضاً إلى مؤدٍّ خلال العرض. حتى مهندس الصوت حاضر داخل فضاء العرض، يختبر مثله مثل غيره ما يجري. تطرح بترا إشكاليتها، تتشارك حزنها، أو حذرها منه، أو قبولها لهذا الحذر. تستحضر أجساداً معنفة على الفضاء الأبيض ذاته وترتب كلماتها، تصف كل جسد، وتختبر مع جمهورها الذي يحاول تركيب صورة هذا الجسد. الميت. المعنّف. هي مساحة اختبار تحثنا من خلالها سرحال على التساؤل: كيف نؤدي حزننا أمام من ماتوا بطريقة عنيفة؟ كيف يتجلى حدادنا على أجساد لا تربطنا بها صلة قربة؟ وفقاً لبترا، «جسد الميت غير حاضر في فضاء العرض». إذاً هي فسحة بيضاء نتخيل معها الأجساد المنتهكة، نرصد فيها لحظات أدائنا للحزن. وهنا قد يتجلى الحزن بكل صدقه أو زيفه. والحالتان واردتان في السلوك البشري. لا تسعى بترا إلى تعنيف الجمهور، بل تبحث معه في فكرة الصدق والنفاق الذي قد يطاول أداءها أيضاً من خلال الصمت الذي يؤجج علاقتنا مع الصورة المتخيلة للميت المعنَّف، فاسحاً المجال للحظات أدائية صادقة أو غير صادقة.
هذا العرض جزء من شغل سرحال على شهادة الماجستير حول «الصمت والأداء الصادق في تأدية الحزن»، وقد عرض في صيغته التطويرية سابقاً في لندن، وهو امتداد لعرض «المأسوف عليه» الذي نفذته عام ٢٠١١ مع مجموعة «دكتافون». يومها، تشاركت مع الجمهور تجربة فقدان صديق تعرض لعملية اغتيال «دعوتكم هنا لكي تقدموا واجب العزاء. ليس لأنه تنقصني العاطفة أو أسعى إلى نيل اهتمامكم. ولكن لأنني أشعر بحاجة إقفال هذا الملف».
تركز بترا في عملها على بناء رابط قوي مع كل فرد من جمهورها، وهذا جزء أساسي من عملها الأدائي. هي ترى نفسها معنية بموضوع الموت وتفاصيله، ليس فقط لأنه أصبح جزءاً من حياتنا اليومية، بل لأنها اختبرت أكثر من تجربة شخصية في هذا المجال. هنالك «شيء مميز في لحظات الحداد». أرادت بترا أن تذهب بطقس الحداد (بالمعنى النفسي لعبارة طقس الحداد) إلى ما هو أبعد من ذلك. لم تفصل جسد الميت المعنف عن السياق السياسي من دون أن توظفه سياسياً في آن واحد. صبت كل اهتمامها على السؤال: كيف نعيد تقديم أجساد معنفة ونتحدث عنها؟ كيف نرى حزننا على تلك الأجساد؟ هنا تحيلنا أسئلة بترا إلى أسئلة أخرى: هل نحزن حقاً عندما نتخيّل أم نرى صورة الحزن في مخيلتنا ونؤديها؟

*«لا يتضمنه دماء»: الخامسة بعد ظهر الغد ـ المعهد الفرنسي في لبنان (طريق الشام)