يقف أيمن بعلبكي على حدة بين فنّاني جيله، وفوق الساحة التشكيليّة اللبنانيّة عموماً. ليس فقط بسبب خلفيّته الثقافيّة الخصبة، ومتانة أسلوبه، وارتقائه درب النضج الجمالي والنجاح التجاري، من دون أدنى تنازل عن الراديكاليّة التعبيريّة في اختبار اللغات والقوالب وتجاوز الحدود… تمايز أيمن بعلبكي وخصوصيّة تجربته، يعودان أيضاً إلى راديكاليّة من نوع آخر، سياسيّة، بالمعنى المباشر للكلمة. تتجلّى بمواقف وخيارات ملازمة لمسيرته، ويعبّر عنها، بل يعيشها، بشفافيّة وعفويّة ووضوح، بلا مهادنة أو مراعاة لاعتبارات من خارج رؤياه الجذريّة. لا يتوقّف أيمن عن رسم الخراب، لكنّه يقول أسبابه. ما ذنبه إذا كان ما يقوله مزعجاً، أو صادماً، أو لا يحقق الاجماع؟ فهو يعرف القاتل، ويسمّيه. لنقل إن تلك الراديكالية في النظر إلى الصراعات التي تشهدها هذه المنطقة «الملعونة» من العالم، تتجلّى في الطاقة المتفجّرة الطالعة من لوحاته وتجهيزاته. إنّها امتداد طبيعي وعضوي لسرديّته البصريّة والتشكيليّة في قلب الجحيم، لشغله الهوسي على الكانفاس والأكريليك وسائر المواد: من كرتون الملصقات القديمة وقماش الشوادر، مروراً بالحديد والحبال والطاولة الفورمايكا والنيون الضوئي و… زجاج مورانو.أيمن بعلبكي فنان منحاز، في وقت يستكين معظم أبناء جيله (مع استثناءات بارزة طبعاً) إلى «خطاب فنّي صرف» يخفي تسوويّة مشبوهة، غارقة في السذاجة والتعميم. يخجل هؤلاء من اختيار خندقهم. أما أيمن الذي تبلغ تجربته ذروة انفلاتاتها التعبيريّة في معرضه الحالي Blowback، في «غاليري صالح بركات» (عنوانه المستقى كسائر عناصر المعرض من متابعات الفنان السياسيّة الدقيقة، ترجمته الممكنة «ارتدادات غير محسوبة»)، فلا يتوانى عن الخوض في وحول الواقع، والمشي على الأتون المشتعل. ويبقى في الوقت نفسه متمرّداً وعصيّاً على أي احتواء. لعلّها جذوره العائليّة المشبعة بالوعي السياسي، كما ذكّرنا بنفسه. لكنّها قبل كل شيء تجربته الأخلاقيّة. لا يتردد في النزول إلى أرض المجزرة، ليلتقط الخراب ويرسمه بطبقات سميكة من الأكريليك التي تبان من خلفها كتابات ونقوش وألوان الخامة الاصليّة، أو الملصقات التي طعّمت بها. يؤسلب الخراب، بتوتّر تعبيري ينحى إلى التجريد. إنّه الشاهد، بالمعنى السارتري، على الانهيار العظيم لمدن وأمم وشعوب. معرضه يحكي عن «اعادة ترسيم الحدود» بالدم من قبل مستعمر لم يتغيّر كثيراً منذ «سايكس بيكو» قبل مئة عام. أعماله الكبيرة والمتوسطة، الدائريّة أحياناً، التي تفيض بعض عناصرها، كالعوائق والحواجز، عن اللوحة، فتصبح مجسّمات، أعماله المؤطرة أو المشدودة كالخيم إلى الجدار، مرسومة في حمأة هذا الكابوس العربي. «ربيع» سرقه الرجل الأبيض «لتصحيح» تركيبة بلادنا، وتوزيعها على جماعات هائجة، متناحرة.
أعمال أيمن بعلبكي الجديدة قويّة، صاخبة بالألوان، كثيفة بالمشاعر، غنيّة بالإحالات، مثقلة بالمعاني، حبلى بالمرجعيّات التاريخيّة والثقافيّة، متجذّرة في ذاكرتنا الجماعيّة. تنضح بهول الفاجعة. إنّها بدورها محاولات لـ «مَسرحة» الانهيار العظيم. من حمص وحلب إلى قلب بيروت: مبنى بركات الذي يختزن ذاكرة الحرب السابقة، مبنى الدوم وفي وسط اللوحة بالنيون عبارة سينمائيّة جدّاً هي «النهاية»… مبنى السفارة الأميركيّة المفجّر. عوائق معدنيّة، من الحرب الثانية، في لوحة دائريّة، تحمل رقم القرار التعيس الذكر 1559. تتحاور مع عوائق من طراز آخر، من الحرب الأولى، بنى عليها غيّوم أبولينير قصيدة إلى المحبوبة. هناك جناح كامل خاص ببلوكات الإسمنت التي تقسم وتفرّق، موسومة بالهويات القاتلة. وجناح آخر خاص بالأعلام المحروقة: أميركية واسرائيلية وبريطانيّة وفرنسيّة… كل هذا الخراب، والركام، والأبنية المنهارة. وطائرات الميدل إيست المدمّرة في مطار بيروت 1982، التي تحمل بصمات الحقد الاسرائيلي. يطلق أيمن العنان لغضبه الذي يتشظّى فوق القماشة. حتى الصمت لديه صاخب، وتلك المشاهد الخرساء التي تنتمي إلى «الطبيعة الصامتة»، تختصر المأساة، وتنضح باليأس الشعبي، وتقول الأفق المسدود.
بعد الستينيات السعيدة التي كان فيها «الالتزام» في الفن والأدب هو القاعدة، يحاول الخطاب المهيمن اليوم اقناعنا باستبعاد «السياسة»، بعدم اقحامها في الثقافة. لا تعتمدوا في ذلك على أيمن بعلبكي!