يفتتح غداً الأحد، في الدوحة، المعرض الاستعادي للفنّان العراقي الرائد ضياء العزاوي (مواليد بغداد 1939). إنّها فرصة مهمّة لقراءة هذه التجربة الطويلة والغنية ومعاينة تطوّراتها في مراحل عدة، وأيضاً لتأكيد قيمة ومكانة اسم عراقي حقّق حضوره وتفوّقه في ميدانه في العالم العربي. «المتحف العربي للفن الحديث» صاحب المبادرة، سيجمع مئات الأعمال، سواء الموجودة في مُحترف الفنّان أم تلك التي تعود لمؤسّسات فنيّة أو مجموعات خاصّة.في أعمال العزاوي، التي ستعرض، ألوان وخطوط تجلّى فيها التجسيد البصري لنمطين من القدرة الإنسانيّة؛ إنسان يبني حضارته، وآخر يدمّرها ويسحق إنسانها الواقف في الضفة الثانية. ذلك كان جزءاً من الانتقالة التي رافقت تجربة العزاوي، ومحطّات إقامته أيضاً، حيث الاسم البارز تصدّر مشهد التشكيل العراقي منذ الستينيات، بالتجديد أولاً وبالتنظير الذي اشترك فيه مع آخرين في جماعتي «نحو الرؤية الجديدة» و«البعد الواحد». كان مأخوذاً في بدايته بالفن العراقي القديم والرموز الشعبية، فضلاً عن أساطير بلاد الرافدين التي صار بقاؤها في مكانها صعباً وعائقاً أمام انطلاقة منتظرة نحو آفاق عالميّة. وهناك المحطّة الثانية حيث دفعه قلقه، منذ عام 1976، إلى اختبارات التجريب من أجل فرض منحى أسلوبي جديد؛ فمغادرة مدينته الأم والإقامة في لندن والتجوال بين عواصم الشرق والغرب، وسّعت طاقة تعبيره وخفّفت من آثار «الحنين المرضي» الذي يصاحب المبدعين في مغترباتهم. هو لا ينتج عملاً يؤرّخ لك المأساة بالنحو المباشر، بل يبحث عن حال الذوات المذبوحة فيها، عن آخر لحظاتها، وإيماءاتها قبل الفقد. هنا المحنة العراقيّة، كارثته الوطنيّة التي لم تتوقف منذ عقود، يدخلها بالرسم مثل منقب آثار لا يبحث عن الأشلاء ليغطّيها بألوان الحدث، كي تغدو عابرة تشرح نفسها، بل يوبّخ العقائد التي تقتل البشر بآلة السياسة وحبائلها. نتذكّر مجموعة أعماله وتخطيطاته تحت اسم «أرض السواد»، وما فيها من وجوه تقول الكثير تحت التعابير المشخّصة، ونعود إلى عمله الرائع لوحة «صبرا وشاتيلا»، ودفاتر الشعر لأهمّ الشعراء العرب، التي استثمر فيها مخياله لتثبيت لغة تأويليّة للنصوص الشعريّة. إنّها لغة الرسّام الذي أعطى المقطع المختار منطقة قراءة جديدة تستدعي المتلقي إلى روحها الوليدة للتوّ.
أنا من جيل أغرقته الهوية والقدرة على الانتساب لمراجع ذات علاقة بالموروث الوطني أو القومي

نحن اليوم مع حدث كبير، الاحتفال فيه بتجربة العزاوي خاصّ ومتفرّد جدّاً. إنّها المرّة الأولى التي سيقدّم فيها صرخته: نتاجه الغزير وأشكال الاشتغالات المتعدّدة، في معرض واحد. هنا حوار معه، لإضاءة جوانب من هذه الفعاليّة المرتقبة.

■ لننطلق من اسم معرضك المرتقب «أنا الصرخة، أية حنجرة تعزفني؟» كأنّ العنوان يأخذنا إلى دروب العراق الحالي ومتاهاته، انطلاقاً من تجربة الفنان واشتغالاته عبر عقود.
ــ لا بل إلى آخر معرض أقمته في العراق قبل مغادرتي عام ١٩٧٦، والذي كان انعكاساً للظروف التي كنت فيها أثناء خدمتي كضابط احتياط في وادي حرير. العودة إلى ذلك هي إعادة تفحص لخصائص تلك السنوات ومتابعتها من أجل طرح الأسئلة عن الأسباب التي أخذت بالعراق إلى روح الدمار وذلك الصراخ الذي لم يُسمع، وكيفية نموه كأنه وحش بمئة ذراع ليلتف على رقاب الملايين من البسطاء، ويبقى من تسبب في زرع تلك الروح في صورة البطل تتابعه الأناشيد الوطنية أو صورة مقدسة للطائفة المريضة كما ترسمها مخيلة الجهلة.

■ تحتضن بطاقة الدعوة تنويهاً عن الأعمال: «منذ 1963 وحتّى الغد». هل هي مجرّد مماحكة مع المتلقي أم تجسيد لقناعة بصعوبة بلوغ الشعور بكمال التجربة الشخصيّة؟
ــ لا يمكن لأي فنان جاد أن يلغي قلقه المستمر في كيفية طرح الأسئلة على نفسه محاولاً تحديها، وبالتالي إلغاء ذلك التمني الذي يراود النفس بدرجة من الرضى تجعل الغد بعضاً من الماضي قبيل تحققه الفعلي. إن فعل الكمال شيء لا يدرك، لأنه ليس هناك مواصفات لذلك. فالمبدع الفعال لا يضع أمام عينيه مواصفات عمله المستقبلي، بل يحرّض نفسه على فعل المغامرة كي يطفئ حرائق روحه التواقة إلى الجديد والمختلف.

■ إلى ماذا يؤشّر اختيار الدوحة كفضاء للمعرض عبر محلين هما «متحف الفنّ العربيّ» و«قاعة الرواق»؟ هل الكساد الذي ضرب الساحة الفنيّة في العواصم المركزيّة، بيروت مثلاً، سبب رئيس لاختيار هذا المكان البعيد أيضاً عن التوترات في المنطقة؟
ــ أولاً علينا أن ننظر إلى المعرض من جانبه المهني وخارج منطق السوق. لم أختر الدوحة، بل اختارني المتحف العربي فيها ضمن برنامجه الذي بدأه منذ افتتاحه عام ٢٠١٠. نظّم المتحف، وبدرجة عالية من المهنية لا تختلف عن أي متحف أوروبي، معارض لفنانين عرب لهم إسهامهم على الصعيد العربي أو العالمي. سبقني إلى ذلك معرض الجزائري عبد الصمد، ثم الفلسطينية منى حاطوم، وبعدها اللبنانية ايتل عدنان. هذا البرنامج لا يقتصر على إقامة المعرض، وبالطريقة الشائعة عربياً، بل يجري التعاون مع منسّقي معارض معروفين دولياً للإشراف على المعرض بكل تفاصيله، مع إشراك للمتخصصين في النقد وتاريخ الفن لتفحص تجربة الفنان وإعادة اكتشاف بعض ممارساته بعين أكثر حداثة وخارج روح الإسهام المحلي الشائعة. هذه الممارسة توثق نصاً وصورة في كتاب بلغتين بالعربية والإنكليزية، ويُنشر بالتعاون مع مؤسسة نشر دولية متخصصة في الفن العالمي.

■ أي رسالة فنية راهنة وأنت تجمع القديم بالجديد لتقدّمه في معرض «استعادي» واحد؟
ــ تقليد المعارض الاستعادية شائع لدى المتاحف العالمية وصورة للمتاحف الجادة التي تسعى لتكون حاضنة اختبار وتطوير للثقافة والفن ضمن علاقتها بالمجتمع. عبر هذا المعرض، سيتم فحص تجربتي عبر خمسين عاماً، ليس عبر الكلام، بل من خلال الوثائق والصور التي تتفحص تاريخ الأعمال وإعادة ربط علاقاتها محلياً أو عربياً مع نماذج من الأعمال التي تدعم هذه العملية. وعندما تنظر إلى مشاركاتي الفنية عبر الفعاليات المختلفة دولياً، ستعرف كمية الجهد ودرجة المهنية العالية بتوفير تلك الأعمال على تنوع وجودها الجغرافي. لقد سبق لـ«معهد العالم العربي» في باريس أن نظم معرضاً مماثلاً لكن بحجم أصغر عام ٢٠٠٢. في هذا المعرض، سوف تعرض أعمال للمرة الأولى، رغم تباعد تواريخ إنتاجها أو طرق تنفيذها، وبهذا سوف تتاح للأصدقاء أو لجامعي الأعمال الفنية الفرصة للتعرف إلى سياقات مختلفة لم تعرف عني بشكل كافٍ.

■ من تجسيد نصوص الشعر إلى الشغل على الحرف العربي، فاللوحات والتخطيطات التي تفيض ببلاغة لونيّة وبمعاني الفراغ أحياناً، كيف ستقدّم هذه التنويعات في المعرض؟
ــ ربما للمرة الأولى، يتم تقديم هذه الأعمال عبر عين ثانية، هي عين منسّقة المعرض كاترين دافيد المعروفة عالمياً بتنظيم معارض الحداثة الدولية. هذه التنويعات من الإنتاج تم درجها ضمن سياقات تاريخية، بعضها ارتبط بالظروف المحلية، وبعضها الآخر يقع ضمن مراحل الاختبار بالتبدل والتغييرات الأسلوبية. حرصت المنسّقة على تقديم دفاتر الشعر ضمن مناخ خاص أقرب إلى روح الصمت الذي توفره المكتبات العامة من أجل تفحصها ضمن حدودها كنص شعري بعيد عن اللوحة أو الأشكال الثلاثية الأبعاد. بهذه الطريقة المتفحصة، ستكون هناك علاقات تتطور بتطور شكل الدفتر واختلافاته عما يجاوره شكلاً ونصاً. وفي الوقت نفسه نقل فعل القراءة إلى فضاءات بصرية، فللون أو الخط فعلهما في تعميق العلاقة مع النص.

■ في هذه المناسبة، سيجتمع أصدقاؤك، زملاؤك، المتأثّرون بك، وتلامذتك ومحبّوك. سيحيط هؤلاء جميعاً بالعزاوي. ما التصوّر إزاء تقاليد الفن التشكيلي العراقي؟ هل انتقلت إلى من بعدكم وإلى من تلاهم من الشباب أيضاً؟ وما الخيط الذي يربط الرسّامين العراقيّين بين الداخل والخارج؟
ــ إن من الجميل في هذه المناسبة، سيكون هناك معرض متزامن لمعرضي لفنان عراقي شاب من جيل الثمانينيات، هو محمود العبيدي الذي تابعته منذ سنوات عبر تبدلاته الأسلوبية. وبهذا المعرض المنظم من قبل مؤسسة المتاحف القطرية، ستتوفر الفرصة لفحص توصلاته الأخيرة، وما سينعكس من غنى على التجربة العراقية، وما حصل لها من تبدلات مفاهيمية قد تكون مجهولة محلياً.
لست على قناعة من تعبير الداخل والخارج. كل ما في الأمر هو أنه قد أكون أنا أو محمود محظوظين بوجودنا في الخارج، لكن ذلك لا يعني انفصالنا عن العراق كوطن. قد نختلف عمّا هو شائع في التجربة المحلية، غير أننا حريصون على أن نكون أيضاً كأنموذج تحريضي لفنّاني الداخل رغم العوائق الهائلة محلياً. ولكي نحقق هذه الرابطة الروحية لمهمة الإبداع بعيداً عن التفاوت الزمني بيننا، حرصت شخصياً على تقديمه بنص عن تجربته ضمن المطبوع الذي سيصدر بهذه المناسبة.

■ «الماضي ليس شيئاً ميّتاً ندرسه بل موقف يتخطّى الزمن...» (من بيان «نحو الرؤية الجديدة» 1969)، فنيّاً كيف فلسفت الموقف من الماضي اليوم في ضوء الأعمال الجديدة التي سنراها في المعرض؟
ــ هذا ما أتركه للزائر، فأنا من جيل أغرقته الهوية والقدرة على الانتساب لمراجع ذات علاقة بالموروث الوطني أو القومي ضمن ظروف عمل محلية محدودة. لم تختبر هذه المحاولات على الصعيد العربي إلا بعد نهاية السبعينيات، وظلت بعيدة عن الاختبار العالمي لفترة طويلة.
ظلت الهوية هدف تنوع أسلوبي، وأخضعتها لتبدلات مختلفة كي تبتعد عن الجانب المباشر والسهل، أي إنني حرصت أكثر على معاينة الانتساب من داخله لا من علاماته الخارجية ولا من تزيناته المغرية لجامعي الأعمال. بعد كل هذه السنوات، كان لا بد لي أن أبعد أعمالي عن فعل الارتباط بتنشيط الذاكرة العاطفية أو روح الحنين للماضي، لكنني أيضاً سعيت ما في وسعي لجعلها مرآة لقناعاتي الشخصية وللتبدلات الثقافية والفنية التي واجهتها ضمن هذه السنوات.

■ الانهيارات العربيّة، وفي الصدارة منها العراقية، أي شكل من العلاقة فرضته على صلة الفنان بالتجريب أولاً، وبالثبات على التجديد الذي عهدناه منذ خمسينيات القرن الماضي، وعلى بعد العلاقة مع الجمهور الذي يُباد أو يوشك أن يتعرّض للإبادة والسحق هنا وهناك؟
ــ الانهيارات العراقية بالذات لها صداها منذ التسعينيات. تمثلت في الغالب ضمن سلسلة لوحات حملت عنوان «بلاد السواد»، وفي النحت حملت عنوان «الروح المعذبة». في كليهما، هناك متابعة لبرنامج التدمير غير المنظور للمجتمع بإثارة الفتنة عبر التطهير الاجتماعي وإلغاء المجتمعات المختلطة الشائعة في مناطق مختلفة في العراق، وفي حلول تعريفات «المكون» ذات المرجعية الطائفية التي حرصت عليها دولة بريمر وما تبعها، بدعم من الأحزاب التي حملتها الدبابات الأميركية أو من جاء وقد هيّأته المخابرات الأميركية ليكون مستشاراً ثقافياً أو سياسياً هدفه المعلن هو دعم الثقافة الوطنية، لا عبر امتدادها المجتمعي الواسع والعابر للمفاهيم الدينية المتسلطة أو الطائفية بكل عماها التاريخي، بل ضمن كانتونات مغلقة هي بذرة الاختلاف المستقبلي.
خلال متابعة أعمالي عبر هذه السنوات، لا يمكن لأي باحث أن يقفز على مجموع هذه النتاجات التي هي شهادة إدانة على كل المستويات لكل من أسهم في عملية التدمير عبر إشاعة روح الانتقام لا المصالحة، وقبول الطائفة أو العشيرة كمظلة لا الوطن. أما ما تشير إليه عن العلاقة مع الجمهور، فهي المسؤولية الفعلية لإدارة المتاحف وما تمتلكه من رؤى قادرة على احتضان تنوعات المجتمع واختلافاته، وهذا ما لا تجده في العديد من البلدان العربية التي تحولت فيها المتاحف إلى مستودعات خزن خالية من أي شروط يمكن للمكان أن يؤدي حتى هذا الغرض.

* معرض «أنا الصرخة، أية حنجرة تعزفني؟ ضياء العزاوي: معرض استعادي (من 1963 حتى الغد)»: «متحف: المتحف العربي للفن الحديث» و«غاليري متاحف قطر» (قاعة الرواق) ـــ من 16 تشرين الأول (أكتوبر) حتى 16 نيسان (أبريل) 2017 ــ mathaf.org.qa