تنطوي حادثة كربلاء على مخزون معنوي هائل، يستثمر بأكثر من شكل، عبر إقامة مراسم العزاء التي يحييها المسلمون الشيعة كل عام. كثيرة هي مظاهر أو «شعائر» إحياء عاشوراء، لكن لا شك في أنّ أحد أبرز مظاهرها اللافتة ثقافياً، هو «اللطمية الحسينية». كثيرون يرون أنّه لا يمكن وضع «اللطمية» في سياق موسيقي، وهذا يحتاج إلى مختصين لتأكيده. غير أنّ المؤكد هو أنّ اللطمية مادة أنثروبولوجية بامتياز، قبل أن تكون مادةً دينية بحتة. وفي الحالتين العراقية والبحرينية، يمكن البحث عن تفاصيل إضافية. عموماً، تندرج اللطمية الحسينية ضمن أدب الرثاء، وقد عرفت تحولات كبيرة، وخصوصاً مع مطلع السبعينيات لجهة نص القصيدة واللحن والإيقاع. نستطيع أن نتبين أن اللطمية البحرينية تتساوق والأحداث السياسية، حيث تتكيّف بمرونة مع المعطيات السياسية، فتوظّف واقعة كربلاء في الزمن الحالي. تتم تعبئة الناس على أساسها. أما اللطمية العراقية، فترنو أكثر إلى التزام القصائد التراثية، وتبتعد عن الطرح السياسي. وثمة فرضيات ممكنة لهذا التشعب.يعود إدخال السياسة في اللطمية البحرينية إلى السبعينيات. كانت الشعارات الشيوعية تدخل على القصيدة العزائية، في معرض الاعتراض على الظلم الذي يتعرض له البحرينيون من قبل الحكام. هنا، يصبح موقف الحسين ومقتله في كربلاء ملهمين لكل مظلوم ــ بحريني، ويُستدعى كأبرز الثوار والمناضلين الذين عرفهم التاريخ. رغم قلة العدد والناصر ومعرفة المصير، حسم خياره بالمجابهة وعدم البيعة للحاكم الظالم، كما تقول السيرة العاشورائية عند الشيعة. هكذا، يتم الاسترشاد بالواقعة كما لو أنها حاصلة اليوم وتحصل كل يوم، وتصبح قابلة للإسقاط بمعانيها السياسية. ولذلك، يردّد الشيعة مصطلحاً بظاهرٍ ديني، وباطن سوسيولوجي، يقول: «يا ليتنا كنا معكم فنفوز فوزاً عظيماً».
دخلت المفردات الشيوعية
على اللطمية الحسينية البحرينية في التسعينيات

ثمة نظرية تقول إنّ اللطمية البحرينية كانت تستقي من الموروث، وإن الثورة الإسلامية في إيران قد بدلت هذه الأوجه، إلا أن دمج السياسة مع التاريخ، من الناحية المنهجية، بدأ قبل ذلك. وكما سبقت الإشارة، كانت المفردات الشيوعية تدخل إلى اللطمية الحسينية ــ البحرينية. الثورة الإيرانية ومدّها الإيديولوجي، شجّعا على التوظيف السياسي لثورة كربلاء، وهذا لا يخفى على أحد. حتى إنّ الإمام الخميني نفسه يعتبر الثورة الإيرانية امتداداً للذكرى، فيقول مقولته الشهيرة: «كل ما لدينا من عاشوراء». تتخذ اللطمية بعداً روحانياً وعصبياً، وتشكّل شعوراً بالوحدة تحتاج إليه الجماعة، فتشدّ من عصبها وتضامنها، وخصوصاً في ظلّ الظروف الصعبة، أو تلك التي تعتبرها صعبة. اجتماعياً، اللطمية إعادة تذكير عصابي بالواقعة التاريخية، يترجم استشهاد الإمام الحسين في الوعي الجماعي كدليل مستدام على مظلومية الشيعة والقمع الذي يتعرضون له على مرّ التاريخ. في الواقع، هذا يمنحهم شحنات كبيرة من التضامن والقوة. نجد ذلك واضحاً في الكثير من اللطميات، لكن سنأخذ نماذج قليلة كشواهد، وإلا احتجنا مجلداً كاملاً: «حراس العقيدة» للرادود حسين الأكرف الذي يقول في إحداها: «شنو نقول وإحنا اليوم قوة/ ونملك عقول والأرواح ثورية وأمينة/ إذا نثور نلوي الموج/ ما ترهبنا البحور/ والعباس ربان السفينة». هنا لم يعد الموضوع يتعلق بشيعة البحرين فقط، بل بالشيعة في كلّ مكان، ممن باتوا يشعرون بأنهم يحققون «الانتصارات» في العقود الأخيرة.
دليل آخر على اندراج اللطمية البحرينية في الصراع الدائر اليوم، الإصدار الأخير للرادود الشهير، صالح الدرازي: «ألا من ناصر». جاء الأخير رداً على قمع مظاهر إحياء عاشوراء من قبل النظام الطائفي البحريني: «ثائر وكابر/ ولا تهاب العساكر/ وشاهر عطرك بين المشاعر/...ضماير لبت آلام الناصر». في البحرين، الرادود مناضل سياسي، وكثيراً ما يتعرّض للاعتقال والتعذيب والنفي، لأنه يتحدث باسم الشعب وبلغته. تبدو القصيدة العزائية كمنشور سياسي واضح، كما هي الحال مع لطميات الرادود صالح الدرازي: «وإذا قلنا ولن يكونا/ ملأ الحكم بنا السجونا/ مرحباً بالسجن في إباءٍ/ مرحبا بالموت فاقتلونا/ جوروا واظلموا وخلّدوا أمية/ ظلماً فاحكموا فالحكم طائفية...». هنا، تعكس اللطمية في وعي الناس المعاناة المتشابهة مع المعاناة التاريخية، ما يخفف وطأة الحاضر، جراء إسقاط الواقعة الأليمة على الحاضر بتشكلاته المتغايرة، «فكل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء». تتماهى الوقائع، فينتقل الحدث التاريخي الأول إلى الواقع المعيش، وتقوم اللطمية بشحن الحزن.
في المقابل، نجد أن اللطمية العراقية ترتكز في المقام الأول على المصيبة، ومشاعر الأسى والفراق والحنين. إنها قصيدة في الدرجة الأولى. عاطفية وحزينة. وهناك الكثير من الأسباب، بلا شك أولها أن العراقيين هم الأقرب لروح المناسبة، وأول من ابتدعوا طقوس إحيائها، وقد أصبحت نسبياً ثابتة. ويجب أن لا ننسى أيضاً استغراق العراق في سرديات الحزن. ستجد عراقيين يقولون: الحزن في العراق هو الطبيعة، الحزن جزء من كيان الفرد العراقي. الناس هنا يعيشون المأساة في كل شيء، العراقيون يحبون الحزن كثيراً، حتى أغانيهم حزينة. ومن حبهم للحزن، جاءت مصيبة كربلاء على مرامهم، مناسبة لتفريغ شحنات الحزن والبكاء. في واقع الأمر، قد لا يكون لك في العراق موقع اجتماعي ممتاز إذا كنت تلقي النكات، كما هي الحال في مجتمعات أخرى. قطعاً يحتاج هذا «الانطباع» إلى بحثٍ وتأكيد، لكنه دارج على ألسنة عراقية كثيرة، وفي أي حال يشبه ما يذهب المخرج الألماني فيرنر هرتزوغ إلى الإشارة إليه، أثناء حديثه عن علاقة الألمان الفاترة بالشعر والسينما، على عكس علاقة الإيرلنديين بالأول والإيطاليين بالثانية.
في الحديث مع كاتب اللطميات العراقي عادل الفتلاوي، للوقوف على الأمر، أشار إلى صعوبة تحديد البداية الحقيقية للخطابة الحسينية والأناشيد التي تقرأُ على المنابر ويصحبها الضربُ على الخدود والصدور «مواساةً لأهل البيت بمصاب الحسين». اللطمية ليست ترفاً ولا لهواً، ولا طرباً، مهما «تفنن» أصحابها في أدائها لترويجها. للطمية وظيفة إيديولوجية واضحة. هذا لا يلغي أنها تطورت، وأصبحت أقرب إلى فولكلور عراقي، له أصول ومذاهب وطرق ورموز. يقول الفتلاوي إنّ الطريقة العراقية كانت وما زالت تميلُ إلى المقامات ذات الإيقاع الثقيل من الناحية الأدائية. أما الموضوعات، فاقتصرتْ كثيراً على الدينية الشيعية، بخاصة في نهايات الستينيات، بعد سيطرة حزب «البعث» العراقي على العراق، وتصرفه بشكلٍ طائفي. تواصل هذا القمع لأكثر من 30 عاماً، وبسببه تغيّر أسلوب الخطابة من تناول الجانب السياسي المتعلق بالسلطة الغاشمة ـــ كما في القصيدة الخالدة «يا حسين بضمايرنا» التي أعدم المئات فقط لأنهم يستمعون إليها أو يملكون تسجيلاً لها ـــ إلى قصائد مليئة بالحزن والتأسي وسرد الواقعة بلا تجديد. تأثر الأسلوب العراقي كثيراً بأساليب أخرى خليجية ولبنانية وإيرانية، فأصبح إيقاعياً أكثر تناغماً مع «موسيقى» العصر الحاضر. وبدأ هذا الأسلوب ينحسر بعد مساحة الحرية ــ المشروطة ــ التي أتيحت له بعد 2003. ويبدو أن المدرسة البحرينية هي التي بدأت بتناول الجانب السياسي كونها أفادت من النهضة السياسية للإمام الحسين لوعي أصحابها في توجيهِ الخطاب السياسي «بنحوٍ صحيح». في العراق، ثمة اشكالات سياسية واجتماعية تحدث فارقاً.
يعدّ الرادود باسم الكربلائي الأكثر شهرة في العراق وعند الشيعة عموماً. تحظى إصداراته بالانتشار الأوسع، وأغلبها ذات منحى عاطفي ــ عصابي لا يتخلله السياسي. ولا أحد يسأل الكربلائي عن نسبة الحقيقة في ما يقدّمه، وعن نسبة العاطفة والأسطورة. الرجل يقدّم ما يطلبه المستمعون في زمن التعصب المذهبي، وإن كان يعيش حياةً خارج الحزن، فيقيم سياحةً في بيروت، ويتناول الغداء في مطعم في شارع مونو في الأشرفية، إلا أن كل ما يقدّمه للجماعة هو الحزن. في الثقافة أيضاً، ينتمي باسم الكربلائي إلى تيار «الشيرازيين» الشيعة، وهم على نقيض من التيار الإصلاحي التغييري. يملكون إيحاءً أنهم الأكثر انتشاراً، لأنهم يمتلكون عشرات الفضائيات التي تروّج لأفكارهم، ولكن الواقع مختلف. في حالة الكربلائي، اللطمية الحسينية كلها عاطفة، وتدخل فيها قضايا دينية مختلف عليها بين المراجع على رأسها التطبير. أخيراً، مع انهيار حكم «البعث» العراقي، جرى التركيز على اللطمية التي تحرّض على زيارة مراقد أهل البيت مثل: «تزوروني»، «يسجلني»، «عين الله ترعاكم يا زوار»، وللكربلائي الكثير من اللطميات التي يتكثّف فيها الحزن والألم، منها «دنيا» التي لاقت رواجاً كبيراً.
في حديثٍ مع الشيخ فيصل الكاظمي، خطيب للمنبر الحسيني ينتمي إلى تيار الإصلاح والوعي، رفض مقولة «اللطمية العراقية تقتصر على الجانب العاطفي»، مستشهداً بـ«أقوى لطمية عراقية ثورية» عرفها العراق وهي «يا حسين بضمايرنا» التي خرج يردّدها الطلبة العراقيون في «انتفاضة صفر» عام 1977 ضد النظام البعثي، أضف إلى ذلك «ما صدر أخيراً من إصدارات ضد داعش تنتمي إلى الحشد الشعبي العراقي». هل يمكن تشبيه هذه اللطميات بأوركسترا الجيش الأحمر مطلع الألفية الفائتة؟ قطعاً لا. الفارق في القيمة الموسيقية كبير، لكن الوظيفة متشابهة. والثورة لها جوانب عاطفية يستحيل سلخها، وتحويلها إلى إطار عقلي صرف. في العراق، الحزب الشيوعي العراقي، وفرقة «الطريق»، كانا عاطفيين أيضاً. الثورات دائماً عاطفية، والثوار عاطفيون. وفي العراق دائماً، يقول الكاظمي، إن نظام «صدام حسين كان قاسياً أكثر مما تتصورون. الدمعة سهلة، والوعي بشكلٍ عام أمر صعب». الكاظمي مستاء من التوجهات السائدة التي لا تعطي كربلاء بعداً تغييرياً: إنها توجيهات «تسعى إلى الاستغراق في الحزن إلى درجة استسهال زج الروايات الضعيفة». وكل هذا يخلق شعائر تفرغ الذكرى من مضمونها الثوري الحقيقي.