لربما هي الأنشط بين مخرجات جيلها. المخرجة والممثلة سحر عسّاف تعود إلى الساحة عبر ثلاثة أعمال مسرحية دفعةً واحدةً ستقدّمها جميعها قبل نهاية العام الحالي بدأتها أمس مع عرضها «مناضلات»، وتختتمها بمسرحية «الملك لير». جاء عرض «مناضلات» أمس في قاعة «أسمبلي هول» (AUB) عملاً ضمن ما يمكن تسميته المسرح «العرضي» Spectacular Theater (أي القائم على العرض). في مناسبة الذكرى 150 لبناء «الجامعة الأميركية» في بيروت، قدّمت عساف إعادة قراءة لخطابات ثلاث نساء رائدات ألقينها في حرم الجامعة. تخبرنا عن ذلك: «الاحتفال بالجامعة، يأتي احتفالاً بها كصرح علمي وثقافي وحضاري، لأن الأماكن التي كان يسمح فيها للمرأة بحرية التعبير أو بإلقاء خطاب خلال عشرينيات إلى أربعينيات القرن الماضي كانت قليلةً تعد على الأصابع. فأن يسمح لثلاث نساء رائدات بإلقاء خطاباتهن في الجامعة وأمام حشودٍ من الناس أمرٌ غير اعتيادي في ذلك الزمان. في ذلك الوقت، كانت الجامعة تقدّم قاعاتها مثل «أسمبلي هول» و«ويست هول» لهؤلاء النسوة رغم المخاطر التي قد تتعرض لها. أما بالنسبة إلى العمل، فنحن نعيد قراءة/ تمثيل هذه الخطابات في الأماكن والقاعات التي قرئت بها». في الخطابات: قرأت الممثلة القديرة جوليا قصّار خطاب مي زيادة (1886 ـــ 1941) الأديبة ذات الصالون الأدبي المعروف في مصر ولبنان التي ارتبطت بعلاقةٍ «قلمية» (عبر رسائل) مع جبران خليل جبران (نشرت رسائلهما في كتاب بعنوان «الشعلة الزرقاء»). أما عليّة الخالدي المخرجة والممثلة والاستاذة في الجامعة الأميركية (وهي بالمناسبة حفيدة عنبرة سلام) فقرأت خطاب عنبرة سلام الناشطة والمؤلفة والشاعرة وأوّل من ترجم ملحمة «الإنيادة» إلى العربية (كما أنّها أيضاً أول امرأة تلقي حديثاً نسائياً من إذاعة «صوت القدس»)، وتولت الممثلة الفلسطينية رائدة طه (عرفها الجمهور في مسرحية «ألاقي زيك فين يا علي») خطاب وداد قرطاس المؤلفة والناشطة والمربية ومديرة «المدرسة الأهلية» في بيروت (لمدة أربعين عاماً). هذه الخطابات الثلاثة التي جمعها حرم الجامعة نفسه، مثلت نوعاً من خطابات التحرر بشكلٍ أو بآخر، إذ شكلت نوعاً من العلامة الفارقة بالنسبة إلى الحركة النسوية، وكذلك بالنسبة إلى حركات التحرر عموماً.
تقدم «الملك لير» بمشاركة روجيه عسّاف ورفعت طربيه
السيدات الثلاث لم يكن نساء عاديات، فمي زيادة الأديبة المعروفة وذات القيمة العالية ثقافياً، قدمت خطاباً يعد من الأجمل في حياتها. تعلّق عسّاف هنا: «الخطاب الذي ألقته زيادة في 28 آذار (مارس) 1932 بعد خروجها من المصح الذي أودعت فيه ظلماً، يشار إليه من سلسلة «كبارنا». أكثر مدافع عن صحة مي العقلية هو الخطاب الذي ألقته وأسمته «رسالة الأديب إلى مجتمعه» حيث تحكي فلسفة وروحانيات وأدباً وثقافة؛ وقد قمنا بالعديد من الأبحاث حول ذلك الخطاب الذي أشارت الصحف آنذاك إلى أنّ قاعة «ويست هول» حيث ألقي كانت ممتلئةً على آخرها. أكثر من هذا، إنّ مدة الخطاب هي نصف ساعة، لكنه امتد على أكثر من ساعتين لأن الناس كانوا يصفقون طوال الوقت؛ فتخيل كيف كان الحدث آنذاك».
الأمر نفسه ينسحب على عنبرة سلام التي تتحدّر من إحدى أعرق العائلات البيروتية. يومها، قامت عنبرة برفع البرقع عن وجهها (بعد إلقاء الخطاب)، في إشارة «تحررية». توضح عسّاف: «في مقابلة أجرتها عنبرة سلام مع صحيفة «النهار» مسجلة صوتاً بأنَّ ذلك الفعل كلفها الكثير. إذ لم تستطع الخروج من المنزل لفترةٍ من الزمن، فرفع البرقع في ذلك الوقت كان حدثاً كبيراً، خصوصاً أنّها تنتمي إلى عائلةٍ كبيرة ومعروفة». بدورها وداد قرطاس كانت ناشطة وقدمت العديد من الخطابات داخل حرم الجامعة. لذلك كان لا بد من الاحتفال بها وبالتأثير الذي تركته على أجيالٍ من التلاميذ كونها مربية عريقة وناشطة فاعلة. لكن من الطبيعي أن يأتي السؤال البديهي: لمِ اختارت عسّاف هذه الشخصيات الثلاث؟ وما هو الرابط بينهن كي يجمعن معاً؟ هل الأمر فقط أنهن ألقين هذه الخطابات في الجامعة الأميركية؟ تجيب عسّاف: «بصراحة اخترت هذه الخطابات، لأنها أثّرت بي في البداية. كما أنّني وجدت داخل هذه الخطابات أشياء تشبه واقعنا الحالي من نواحٍ كثيرة. لذلك، وجدت أن استعادتها أمرٌ رائع ومفيد أصلاً، لكن ما اكتشفته لاحقاً أنَّ هناك رابطاً غير معروف بين السيدات الثلاث: عنبرة سلام ووداد قرطاس كانتا من المؤسسين لإحدى الجمعيات الأهلية والعاملة في الوسط البيروتي. كذلك هناك رابط بين وداد قرطاس ومي زيادة، إذ دعت وداد مي إلى حفل تخريج طالبات «المدرسة الأهلية» (وكان ذلك في حزيران من العام نفسه). إذاً هؤلاء السيدات العظيمات جمعتهن روابط ومعرفة، وعملن مع بعضهن بشكلٍ أو بآخر، وعشن المرحلة الزمنية نفسها (خطاب عنبرة 1920 بينما الخطابان الباقيان هما في ثلاثينيات القرن الماضي)». ساعد في تقديم «مناضلات» بهذا الشكل كل من: بشارة عطالله (تصميم ملابس)، جوزيف فارس (إدارة انتاج ومعد مساعد)، ميسون هلال (تصميم مكياج)، جاد بتلوني (تصميم إضاءة)، فيما الغرافيك لاستديو «كواكب».
بعد عرض «مناضلات»، تعود سحر عسّاف إلى المسرح بسرعة بالغة لتقديم مسرحية «حوار الكلاب» للإسباني المعروف ميغيل دي ثيربانتس بالتعاون مع روبرت مايرز (مدير مساعد لمبادرة العمل المسرحي في الجامعة الأميركية عملت معه عساف سابقاً ضمن فرقة «تحويل»، وكاتب مسرحي أميركي واستاذ في قسم اللغة الإنكليزية في الجامعة، ومقيم في لبنان منذ أكثر من 10 سنوات)، وزوجته مريام آيريس، إذ اقتبسا هذا العمل عن الإسبانية وترجماه إلى الانكليزية لتعرّبه عساف لاحقاً. وتشرح الأخيرة: «بدأت الفكرة تختمر، حين طلبت مني السيدة نضال الأشقر أن نقدم عملاً مسرحياً في العيد العشرين لـ «مسرح المدينة» (يوم 21 تشرين الأول). تواصلت مع مايرز وفرقة «تحويل» لتقديم عمل مناسب بخصوص هذا العرض. في هذا العمل، سألعب أحد الدورين الرئيسيين فيما سيلعب سني عبدالباقي الدور الثاني، بالإضافة إلى رافي فغالي وفداء غبريال، وسيكون العمل من اخراجي». بعد ذلك، تنطلق عساّف لتقديم «الملك لير» لشكسبير. تشير هنا إلى أنَّه من غير المعقول أن «تكون مسرحياً ولا تقدّم شكسبير ولو لمرةٍ في حياتك، إنها خطوة ضرورية لأي مسرحي، ثم إن روبرت مايرز لطالما قال لي بأن مسرحية «لير» مناسبة جداً للبنان من حيث واقع القصّة وطبيعتها وجوّها». تعمل سحر على المسرحية منذ حزيران (يونيو) الفائت مع رافي فغالي وندى صعب، ويشاركها في العمل المخرج روجيه عسّاف في دور لير، والقدير رفعت طربيه دور غلوستر، إلى جانب فؤاد يمين، ايلي فغالي، سني عبدالباقي، ريهام سابق، بشارة عطالله، زينب عساف، رامي سعيدي. وتوضح هنا أنّها لا تمثّل إلا دوراً صغيراً في العرض، وتخبرنا بحزن: «أنا أولاً وآخراً ممثلة قبل أن أكون مخرجة، لكن شكسبير صعب ويحتاج جهداً كبيراً».