هناك، سوف يبعث الحب ثانية. ذاك الحب المقتول بأيدي أصحابه. سقوط الضحية على الكوبل، حيث لا ملاك ولا شيطان، حيث لا شيء سوى قطيع الذكريات. سقوط الضحية، السوري، حرّك عواصف النار المخنوقة في دواخل المرأة والرجل في مسرحية «حبيبي مش قاسمين» (كتابة رولا حمادة، تمثيلها وعمّار شلق ومصطفى حجازي، وإخراج موريس معلوف). ميتان منتفخان بالصمت وعواصف الغرق. غير أنّ انبعاث الحب، لن يشحمه إلا الكلام البشري. مسرحية مكتوبة لا بقلم واحد. مكتوبة بقلم وقلم آخر، قلمان بيد واحدة. سوف يصعد الجزء الأول من رغبة رولا حمادة في كتابة نص، ضد الرداءة الهشة، على انتصار الرغبات. لدى رولا حمادة رغبة بأن تسيل دماء الأيام البعيدة. هكذا تبتغي السلامة والحياة، وهي تعود، بدون جواز سفر إلى مرحلة الوصاية السورية في لبنان. مرحلة الانحدار المنطفئة ـ كلمة سر اللبنانيين ـ إلى محاكمة المرحلة العاصفة، بدون حد أدنى من التوازن، بين المتعلقات الحميمة والمتعلقات الجوهرية المدمرة. كلام سريع هارب بوسائط قليلة، على الرغم من ضرورة تعدد الوسائط، لأن العصف السوري بلبنان، فيه من القص بين السطور، أكثر مما فيه من القص الشعبي المتراكب على الصور السريعة الإجمالية، وتقاطع الأصوات بالحوادث الغامضة. واقع تحجرت فيه الحساسيات مرحلة وحوش الأمن ووحوش الاقتصاد. الجزء الأول ضحية الجزء الثاني، لأن الجزء الأول جزء قصور الذهنية المنمطة. ضحية الرمال المتصايحة على الذكريات البعيدة. لا يعالج هيجان البحر بالقوارب الصغيرة. قراءة العمر، قراءة بعيدة من القبور. هكذا أراها. قراءة سوسيو سياسية، لا تراوح أمام الكلام السريع. كلام سريع يصرف ذاته، بالمراوحة بين الأجناس. قديس فاسق أو لص مقدس. هنا، يتضخم الكلام على المرحلة السورية، على طريقة قولي الغناء. لن تنفجر العاصفة بصاعقة واحدة، ولو أن رولا حمادة ذات نوايا تصلي على شرف الأيام الماضية، لا لكي تحاكم . لكي تتطهر، من أشغال المصنوع على يد الصانع السوري. كلام على القمع، على الاستغلال، على استعمال السلاح السوري لرسم الجحيم في لبنان، لا لرسم الفردوس المفقود. يتساوى حجم القبر اللبناني بالنوايا اللبنانية والنوايا السورية سواء بسواء. ترمي حمادة بذور الرعب في الهواء، خلف الدموع، كعصفور يسقط من السماء، كما سقط السوري من فوق سطوح الهرب من القوى الأمنية، لأنّه لا يمتلك أوراقاً تثبت هويته. إنقاذ السوري من الموت، على الرغم من سقوطه من علٍ، حجة من حجج بناء الواقع على النواح. بناء الواقع على الدراما، لا لتعويض الفضيلة عن الخطيئات. سماع ردود الفعل في الصالة، يذكر بردود الفعل في صالة «شي فاشل» لزياد الرحباني، حين يتراشق اللبنانيون بلغة الحجر. في الصالة من وجد بالسوري، في عِش الزوجية اللبناني، المصطوم بالصمت القاتل، رماده القريب المنتظر. شخص يستأهل المخالب لا الصلوات. صوت العنصرية اللبنانية، سمع في الصالة/ الإله. انتظرت أن أسمع: الموت للسوري، الموت للسوري. ما قال أحد ذلك بطريقة مباشرة، غير أن بعض الحضور قام بتدوينه في كتاب ملاحظاته. أخرجه من الحقيبة. كتب أن لا دموع، حتى الدموع الخشنة على السوري، ما دام الجيش السوري بهدل اللبنانيين، بعيداً من أحوال الطقس. بعيداً من الشمس والقمر.
سماع ردود الفعل في الصالة، يذكر بردود الفعل في صالة «شي فاشل» لزياد الرحباني
لم تتقد الدراما هنا. هنا، نزفت كل تخثرات اللبنانيين. نزفت ومضة التركيب الدرامي، على وهم أن الماضي اللامبارك لن ينتج إلا هذا الراهن اللامبارك. صحيح أن السوري، يدفع المرأة الأرستقراطية، إلى أن تخلع قفازاتها، لكي تصافحه. لكي تضعه في فضاء إنساني غير منجز. غير أن ذلك لا يفعل سوى تلطيف حزن السوري، لا تفهّمه. ربيع المسرحية في الجزء الثاني، حيث يمور حصى الحياة على سجادة الحياة. تلوح في الجزء الثاني من الفودفيل النعسانة في الجزء الأول، بالرغم من الدخول الدموي للسوري المدمى. أحلى اللحظات وأكثر اللحظات حكمة، بعيداً من حكمة الكتب. إذ يدخل الجزء هذا، بغور العلاقة الأفقي، بين الزوجين. إذ ذاك، يضحي الأفقي عمودي النزوع، تحت هضاب لحظات فقدت أشرعتها، مذ اكتشفت الزوجة خيانة زوجها المستمرة لها. بوحٌ يركض على العيون كيراعات في الظلمة. نسر وفهد في عالم مصبوغ بالصمت الجليل. لا أحب أن أحيل ذلك، على كل أنواع الإسقاط، بحيث يقرأ صمت الإمبراطورية الزوجية في صمت اللبنانيين، الشعب والسلطة، أمام أنهار فجت حياتهم بحكم الماء على الماء. جزء كالنصر في معركة خاسرة. جزء يصعد بالصولجان في الهواء. وسَّع وشفافية مصبوغة بالشفافية. أشياء تضحي الظلمة معها ظلمة خضراء. بريسترويكا وغلاسنوست. مصارحة ومكاشفة، بالعربية الفصحى. نجمان آفلان، نادمان، على سماء بيضاء. تطهر لا علاقة له بطقوس آرتو التطهيرية. لا علاقة له، إلا بتجاوز خوف الزوجة من الزوج. وبالعكس. دسم الكلام، هنا، لا يسمح بوصف «حبيبي مش قاسمين» بالمسرحية اللايت. هذه مسرحية تهز غصون العلاقات بين الكوبلات. لن تؤثر بعض المبالغات في بداية المسرحية على اكتمال المسرحية. ذلك أنّ رولا حمادة، لا يهمها رف مجلدات وهي تبحث عن النقاء الوامض، في حكاية الزوجين، بلحظات تأخذها بين ذراعيها، بين الكتابة والأداء.
تقدم حمادة كل علاقات الحماية للنص. غير أن النص ذا القوة العامة، بقي في جزءين بتكوينه التعاقبي. لا أزال أدور هنا، حول فكرة أن الصلات هشة وواهية، بين العلاقات المتأزمة بين الزوجين وبين اقتحام السوري لغرفة نوم الزوجين. السوري لمسرحية أخرى، لا لهذه المسرحية. لا مزاح هنا. لأن «القضية السورية» شيء راسخ بين القطاع العام في لبنان والمجتمع المدني. لا سحر أحاديث، إذ لا جوهر علاقة بين الحضور. لا ابتذال. هذا صحيح. التركيب واضح بلا تخف في الجزء الأول. التجربة المدهشة في الجزء الثاني، حين يترك السوري غرفة النوم بطريقه إلى «المدينة الديمقراطية». لن يترك إلا بعد أن يضحي وضعه المأزوم، ملكية مشتركة بين نفرين هائمين خلف فلسفتيهما الخاصتين. حياة الفرد في الجزء الثاني، تزيد السائل حيرة وتزيده قناعة بأن طبائع النزاع الغالب على تجادل الزوجين، طبائع نزاع موجودة خلف الأبواب المغلقة على معارك الأشكال الخافية. في الجزء الثاني نهر المسرحية. في الجزء الثاني، لا جدية مصنوعة من الرغبة بصناعة الجدية ولا هفوات. نوع من سحر الحديث. خطاب المتكلم لا خطاب الطريقة. أداء كلعب الورق بين الزوج والزوجة. رولا حمادة، كحلم يقظة في الجزء الثاني من المسرحية. أداء لا يفر أمام أعداء الدراما. إمساك بمفاصل الدراما والكوميديا والتراجيديا، بروح مجروحة بأظافر خريف العمر. لا تخييل. عيش كَبُر على الأصابع وهي تتفقد طاعون المنزل/ المنازل بهجرة شغوفة نحو الأعماق. أداء إكسترا واقعي، جذاب، يرفع الأقنعة الواقية عن الوجوه، ببوح يقفز فوق كل خطوط التماس بين الزوجين. عمار شلق بلا علة في «حبيبي مش قاسمين». لا ينقطع عن مجرى نهر الأداء لدى رولا حمادة كي يصبا ببحرهما الواحد. إتباع المرأة للرجل، اتباع الرجل للمرأة، يصوره موريس معلوف بولع الشغل بالمسرح، لا بالجنون. لأن الرجل يقود عمليات عقلية دقيقة في المسرحية. توسلات من الفودفيل الراقي. توسلات من الواقعية المراوحة بين السخرية والحكمة، لبثت الواقعية واقعية سحرية بالكثير من اللحظات. سوى لحظات العض على الأداء، على عنف المعارك بين الزوجين. تنزلق المسرحة، إذ يأخذ العجب أصحابها إلى استباق الأداء بنشوة الأداء، إلى التغريب. لعب على كشف الأوصاف البليغة، بالعلاقة المسلحة بالميول. لعب يقدم المسرح كلعبة، لا كمشهد. كحلبة ملاكمة، لا كبناءات من القشعريرة والقلق على حسن استقبال الصفتين هاتين، فقط في المعركة الأخيرة بين الزوجين، بعيداً من جرح السوري وشره. يرسم الجسد حضوره على اللعب المسرحي. بعدها، يرسم الجسد حضوره على الحقيقة لا على اللعب المسرحي. لا يموت بريشت في المسرحيات اللبنانية. لا يزال ابن العم الطيب على صفحات حضوره المؤثرة منذ أواخر خمسينيات القرن العشرين. لن ينتصر أحد المشاهدين على أفعال الزوج الشنعاء ولا على جحيم المرأة الصامتة. لأن حكايات المسرحية، تخوضها كل العائلات. كل عائلة بطريقة. في الجزء الثاني من المسرحية لغة المسرحية. لغة العرض. عقد قران بين الأصناف والأفعال، عبر العديد من العلامات المترابطة، حيث تُشكل لوحة كاملة، من كل العناصر. لا أفعال مضمرة بعد. لا مزواجات في الكون الواحد. كل علامة تعبر، كل علامة تدل. لن تتعذر ترجمة المواربات اللفظية، حيث لا مواربات. سوف تضيف بعض مسحات البولفار المسرحي، بعض المألوفات، بعيداً من الشروح الزائفة أمام الشروخ الملتهبة بالدلالات. الأشياء الضئيلة في «حبيبي مش قاسمين» تكتب ضروب الأحداث. تكتب ضروب المسرح، لأنّ الواحدة تتغذى من الأخرى.

«حبيبي مش قاسمين»: حتى 16 تشرين الأول (أكتوبر) ـــ «مسرح مونو» (الأشرفية) ـ للاستعلام: 01/202422