الجيل الأخلاقي

  • 0
  • ض
  • ض

ذلك الصيف أواسط التسعينيات، أقامت الفرق العربيّة المدعوّة إلى «مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي» في السفن السياحية، بسبب «المؤتمر الدولي للسكّان والتنمية» الذي لم يترك فندقاً من شرّه في العاصمة المصريّة. فوق سطح تلك السفينة الراسية على ضفاف النيل، ذات ليلة قاهريّة عامرة، كانت جلسة سمر مع رفيق علي أحمد (المكرّم تلك الدورة)، ورضوان حمزة مدير فرقة سهام ناصر التي قدّمت عامذاك نسخة لبنانيّة مدهشة من المتمرّدة الإغريقيّة الخالدة («ميديا ميديا»، 1994). لا أعرف لماذا احتفظت، أنا النسّاء، بتفاصيل تلك السهرة التي امتدّت حتّى الفجر. كان رفيق قليل الكلام يكتفي بطرح الأسئلة الحائرة، ورضوان بمزاجه الساخر مفتوح الشهيّة على النقاش، وكاتب هذه السطور بشطحاته الماديّة والمتعويّة والثوريّة، بدا كأنّه آتٍ من المرّيخ (في الحقيقة، من مكان ليس بعيداً عنه، هو لندن)… طرح عليّ مجموعة أسئلة لحوار صحافي، أجبته عليها خطيّاً، (مثلاً. سؤال: اللي خلق علق؟. جواب: الحريّة هي فهم الضرورة). دار الحديث حول التغيير والسلم الأهلي والتقدّم والعلمانيّة والنظام السياسي والفكرة القوميّة. كان السؤال المحوري هو دور اليسار اليوم في لبنان والعالم العربي، ضرورته، علاقته بالدين، وموقعه من النظام الطائفي والأنظمة الاستبداديّة. نحن في بداية المرحلة الانتقاليّة التي تلت الطائف، وانفتاح المناطق اللبنانيّة على بعضها، بعدما فرّقتها خطوط التماس طويلاً. كان البلد يعيش ذروة الأوهام الحريريّة بتجاوز الحرب الأهليّة وإعادة البناء. ونحن غارقون في الشكوك، نحاول أن نتوقّع ملامح المستقبل. أدركت أنني لم أكن أعرف رضوان جيّداً. كنت أقرب منذ أيّام باريس، من أخيه شوقي الذي سيخذله قلبه بعدها بسنوات. تلك الليلة صرنا «أصدقاء» فعلاً. صداقة سياسيّة وفكريّة. وهذا الصديق هو الذي نودّعه اليوم بمزيد من الأسى، ونحن نفكّر بعائلته وزملائه ورفاقه. رضوان الذي رحل مبكراً قبل أن يعطي كل ما يمكن أن يعطيه، هو أحد أبناء هذا «الجيل الأخلاقي» بالمعنى المادي، الإغريقي، لكلمة أخلاق. جيل ورث أفكار التنوير والتقدم، ومشروع التحرر والتغيير عن معلّمي السبعينيات، وأراد أن يمضي به إلى النهاية. رضوان الذي بقي شيوعيّاً في زمن الشكوك والانتهازيّات والردات. شغله المسرحي على «دونكيشوت» محمد العبدالله بعدها بسنوات عدّة، ثم على «رسولة» أنسي الحاج، يحكي عن طموحات ذلك الجيل ومراجعه وأحلامه المخدوعة. بقي رضوان طوال مساره المهني والسياسي، في الإعلام والمسرح، ذلك المناضل الراديكالي الذي يرفض التنازل. والكثير مما قاله صيف ١٩٩٤ عن الصراع الحقيقي في لبنان والمنطقة ما زال راهناً. نودّعه وعيننا على الورثة: هل هناك حقّاً من سيكمل تلك الطريق التي انقطعت على حين غرّة؟

0 تعليق

التعليقات